قلت:(فبعث) معطوف على محذوف، أي: فاختلفوا فبعث، و (بغياً) : مفعول له، و (من الحق) بيان (لما) .
يقول الحق جلّ جلاله: كانَ النَّاسُ في زمن آدم عليه السلام وما قرُب منه أُمَّةً واحِدَةً أي: جماعة واحدة، متفقة على التوحيد، والطاعة، فاختلفوا بعد ذلك في أمر التوحيد، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ لأهل التوحيد والطاعة بالنعيم المقيم، وَمُنْذِرِينَ أي: مخوفين لأهل الكفر والعصيان بالعذاب الأليم.
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ أي: جنس الكتب، فيشمل الكتب السماوية كلها، متلبساً ذلك الكتاب بِالْحَقِّ، ودالاً عليه لِيَحْكُمَ الحق تعالى على لسان الرسل بَيْنَ النَّاسِ في الأمر الذي اخْتَلَفُوا فِيهِ من أمر التوحيد وغيره. ثم اختلفوا أيضاً في الكتب المنزلة فبعضهم آمن، وبعضهم كفر بها أو ببعضها، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي:
في الكتاب المنزل، إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ حسداً أو كبراً فاليهود آمنوا بالتوراة وكفروا بالإنجيل، والنصارى آمنوا بالإنجيل وكفروا بالتوراة، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ: الآيات الواضحات في صحة ذلك الكتاب الذي كفروا به، والأمر بالإيمان به.
وإنما وقع ذلك الكفر منهم بَغْياً وحسداً بَيْنَهُمْ، فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته، فأمرهم أن يتألفوا بالعلم، فتحاسدوا، واختلفوا طلباً للرئاسة والجاه، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد- عليه الصلاة والسلام- للأمر الذي اختلف فيه أهل الكتاب، وهو الحق الذي جاءت به الرسل، فآمنوا بالجميع، وتآلفوا على طاعة الله بِإِذْنِهِ وإرادته، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، ويضل من يشاء عن طريقه القويم، لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
الإشارة: الإصل في الأرواح كلها: الاتفاقُ والإقرار، وإنما حصل لها الخلاف والإنكار بعد دخولها في عالم الأشباح، وهبوطها من عالم الأرواح، فبعث الله النبيين يُذكْرون الناس العهدَ القديم، فمن سبقت له السعادة حصل له الإقرار، ومَن سبق له الشقاء حصل له الإنكار، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام-: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَد على الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصّرَانِهِ أوْ يُمَجِّسَانِهِ» . ثم بعث الله الحكماء، وهم العارفون بالله، يعالجون ما حصل