للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في أعلى عليين، وخفض الكفار في أسفل سافلين. فهم يسخرون منهم في دار الدنيا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنهم في عليين، والآخرون في أسفل سافلين. أو لأنهم في كرامة، والآخرون في مذلة. أو لأنهم يسخرون منهم يوم القيامة كما سخروا منهم في الدنيا.

وعبَّر بالتقوى لأنها سبب رفعهم واستعلائهم. وأما استهزاؤهم بهم لأجل فقرهم، فإن الفقر شرف للعبد، والبسط فى الدنيا لا يدل على شرفه فقد يكون استدراجاً، وقد يكون عوناً، فالله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، أي:

بغير تقدير، فيوسع في الدنيا استدراجاً وابتلاء، ويقتر على من يشاء اختباراً وتمحيصاً، لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.

الإشارة: اعلم أن عمل أهل الباطن كله باطني قلبي، بين تفكر واعتبار، وشهود واستبصار، أو نقول: بين فكرة ونظرة وعكوف في الحضرة، فلا يظهرون من أعمالهم إلا المهم من الواجبات، ولذلك قال بعضهم: إذا وصل العمل إلى القلوب استراحت الجوارح، (ومعلوم أن الذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح) «١» لأن أعمال القلوب خفية، لا يطلع عليها ملك فيكتبها، ولا شيطان فيفسدها، الإخلاص فيها محقق.

وأيضاً: «تفكر ساعة أفضل من عبادة ستين سنة» . وسئل- عليه الصلاة والسلام-: «أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ؟ قال:

العلْمُ بالله. قيلَ: يا رسُولَ الله سَأَلْنَاكَ عن العَمَل؟ فقال: العلمُ بالله، ثم قال صلّى الله عليه وسلم: إذا حَصَلَ العلمُ بالله كَفَى قلِيلُ العَملِ» . أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فلما خفيت أعمال أهل الباطن سخر منهم أهل الظاهر، واستصغروا شأنهم حيث لم يروا عليهم من الأعمال ما رأوا على العُبَّاد والزُهاد. والذين اتقوا شهود ما سوى الله، أو كل ما يشغل عن الله، فوقهم يوم القيامة لأنهم من المقربين وغيرهم من عوام المسلمين، والله يرزق من يشاء في الدارين بغير حسابٍ، أي: بغير تقدير ولا حصر، فيرزق العلوم، ويفتح مخازن الفهوم على مَن توجه إلى مولاه، وفرغ قلبه مما سواه. وبالله التوفيق.

ثم ذكر الحق تعالى حكمة بعثه الرسل، فقال:


(١) عزاه السراج الطوسي فى اللمع إلى أبى سليمان الداراني. وقال السراج موضحا معناه: هذا الذي قال أبو سليمان يحتمل معنيين، أحدهما: أنه أراد بذلك:
استراحت الجوارح من المجاهدات والمكابدات من الأعمال، إذا اشتغل بحفظ قلبه ومراعاة سره من الخواطر المشغلة والعوارض المذمومة التي تشغل قلبه عن ذكر الله تعالى. ويحتمل أيضا أنه أراد بذلك: أن يتمكن من المجاهدة، والأعمال والعبادات وتصير وطنه حتى يستلذها بقلبه ويجد حلاوتها، ويسقط عنه التعب ووجود الألم الذي كان يجد قبل ذلك.

<<  <  ج: ص:  >  >>