للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتخليته تعالى إياهم مع المكر، تسبب عنه الرفع إلى السماء، وإبقاء عيسى حيّاً إلى آخر الزمان، حتى ينزل خليفة عن نبينا- عليه الصلاة والسلام-، فكان ذلك في غاية الكمال والإتقان، لكن لا يفطن لهذا إلا أهل العرفان.

الإشارة: يجب على المريد الصادق الذي يطلب دواء قلبه، أن يفر من الوطن الذي يظهر فيه الإنكار، إلى الوطن الذي يكثر فيه الإقرار، يفر إلى من يعينه على نصر الدين من الأبرار المقربين، الذين جعلهم الله حواري الدين، ففي الحديث الصحيح: «خَيْرُ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ «١» الجِبَالِ يَفِرُّ مِنَ الْفِتَنِ» . فالمؤمن يفر بدينه من شاهق جبل إلى شاهق جبل حتى يدركه الموت، وما زالت الأكابر تفر بنفسها إلى شواهق الجبال، يهربون من حس الدنيا وشغبها، ولا يرافقون إلا من يستعين بهم على ذكر الله، وهم أهل التجريد، الذين اصطفاهم الله لخالص التوحيد، فروا إلى الله فآواهم الله، قالوا: (آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) منقادون لما تريد منا، (ربنا آمنا بما أنزلت) من الأحكام الجلالية والجمالية قد عرفناك في جميع الحالات، (فاكتبنا مع الشاهدين) لحضرتك، المنعمين بشهود ذاتك، ومن مكر بنا من القواطع الخفية فَغَيَّبنا عنه بشهود أنوارك القدسية، وانصرنا فإنك خير الناصرين، ولا تدعنا مع مكر الماكرين يا رب العالمين.

ثم ذكر الحق تعالى رفع عيسى إلى السماء فقال:

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٨]

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)

قلت: (إذ قال) : ظرف لمقدر، أي: اذكر، أو وقع ذلك إذ قال، أو لمكروا، (متوفيك) أي: رافعك إليَّ وافياً تاماً، من قولهم: توفيت كذا واستوفيته: قبضته وافياً تامّاً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت، أو منيمك بدليل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، رُوِيَ أنه رُفع نائماً، والإجماع على أنه لم يمت،


(١) (شعف) ، بفتح الشين والعين: جمع شعفة، وهى من كل شىء: أعلاه. والمراد بها هنا: رءوس الجبال.

<<  <  ج: ص:  >  >>