وقد تكلم في الإحياء على هذه الآية فقال: إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل لأنهم جحدوا بعد العلم، وإنما تضاعف عذاب العالم في معصيته لأنه عَصَى عن علم. قلت: وافهم منه قوله صلّى الله عليه وسلم في أبي طالب: «وَلَولاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأسفلَ مِنَ النَّارِ» . وذلك لاعراضه مع العلم. وقال في الإحياء أيضًا: شدَّد أمر المنافقين لإن الكافر كفرَ وأظهَرَ، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرًا آخر، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظَّم أمر المخلوقين. هـ. والحاصل: أن التشديد في الرياء والنفاق لِمَا في ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق، فكان أعظمَ من الكفر الصريح. هـ. من الحاشية.
ومن علامة تصفيته الباطن من الرياء والنفاق تلبس الظاهر بأحسن الأخلاق، ولذلك ذكرَهِ بِأَثَره، فقال:
قلت:(إلا من ظلم) : استثناء منقطع، أي: لكن من ظلم فلا بأس أن يشكو بظالمه ويدعو عليه، وليس المراد أن الله يحب ذلك منه، إذ العفو أحسن كما يقوله بعد، وقرئ:(إلا من ظَلَم) بالبناء للفاعل، أي: ولكن الظالم يفعل مالا يحبه الله.
يقول الحق جلَ جلاله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ أي: الإجهار بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لأنه مِن فِعل أهل الجفاء والجهل إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فلا بأس أن يجهر بالدعاء على ظالمه، أو بالشكوى به. نظيرها: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. قال مجاهد: هذا في الضيف النازل إذا لم يُضَف ومُنِع حقه، أو أُسِيءَ قِراه، فقد رخص له أن يذكر ما صُنعَ به. وزَعَم أن ضيفا تضيّف قوما فأساءوا قراه، فاشتكاهم، فنزلت الآية رخصة في شكواه. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لدعاء المظلوم، ورده على الظالم، فلا يحتاج إلى جهره، عَلِيماً بالظالم فيعاقبه على قدر جرمه.
ثم رغَّب في العفو فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً: طاعة وبرًا كحسن الخلق ولين الجانب، أَوْ تُخْفُوهُ أي:
تفعلوه سرًا، أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ بأن لا تؤاخذوا به من أساء إليكم، وهذا هو المقصود بالذكر، وإنما ذُكِرَ إبداءُ الخير وإخفاؤُه سببًا ووسيلة لذكره، ولذلك رتب عليه فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي: كثير العفو عن العُصاة، مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم أولى بذلك، وهو حث للمظلوم على العفو، بعد ما رخَّص له في الانتصار، حملاً على مكارم الأخلاق.