وقال في أصحاب المائدة: فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لآ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. وقال: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ، وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يمنعهم من ذلك العذاب. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا في سرائرهم وأعمالهم في حال النفاق، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي: وثقوا به وتمسكوا به، دون أحد سواه، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعته إلا وجه الله، لا رياء ولا سمعة فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في الدين. قال الفرَّاء: من المؤمنين، وقال العتبي: حاد عن كلامهم غيظًا عليهم، ولم يقل هم المؤمنون. هـ. قلت:
إنما قال: مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل: منهم، لأنَّ التخلص من النفاق صعب، ولا يكون من المؤمنين، حتى يتخلص من جميع شعبه، وهو عزيز، وقد قال عليه الصلاة والسلام:«ثلاث من كن فيه فهُوَ مُنَافقٌ، وإن صَامَ وصلَّى وزَعم أنه مُسلمٌ، من إذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعد أخلف، وإذا ائُتمِنَ خَانَ» .
وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين أَجْراً عَظِيماً فيساهُمونَهم فيه إن تابوا وأصلحوا، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ عذابهم، ولذلك قال: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ أي: لا حاجة له في عذابكم، فلا يُشفى به غيظًا ولا يدفع به ضررًا، أو يستجلب به نفعًا لأنه غنيَّ عن المنافع، وإنما يعاقب المصر بكفره، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض، فإن زال بالإيمان والشكر، ونقَّى منه قلبه، تخلص من تبعته. وإنما قدم الشكر لإن الناظر يدرك النعم أولاً فيشكر شكرًا مبهمًا، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به. قاله البيضاوي. وقال الثعلبي: فيه تقديم وتأخير، أي إن آمنتم وشكرتم، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان. وَكانَ اللَّهُ شاكِراً لأعمال عباده، يقبل اليسير ويعطي الكثير، عَلِيماً بحقيقة شكرهم وإيمانهم، ومقدار أعمالهم، فيضاعفها على قدر تخليصها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص كلما اجتهد العبد في قطع الرياء نبت على لون آخر، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية. كما قال الششترى رضي الله عنه:
قال بعضهم:[لا ينبت الإخلاص في القلب حتى يَسقط من عين الناس، ويُسقط الناسَ من عينه] . والإخلاص من أعمال القلوب، فلا يطَّلع عليه إلا علآَّم الغيوب. فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار، وقد تدخل الرياء مع الإسرار، وتتخلص من القلب مع الإظهار، وفي الحكم:«ربما دخل الرياءُ عليك حيث لا ينظر الخلق إليك» . فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء، وأصلح ما بينه وبين الله، واعتصم به دون شيء سواه، كان مع المخلصين المقربين فيكون عمله موفورًا، وسعيه مشكورًا. وبالله التوفيق.