يقول الحق جلّ جلاله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: إذا كان الأمر كما ذكر من شئونه تعالى في إهلاك مَن تعدى الحدود، ففِروا إلى الله بالإيمان والطاعة، كي تنجو من غضبه، وتفوزوا بثوابه، أو: ففِرُّوا من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، أو: من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن، إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ، تعليل للأمر بالفرار إليه تعالى، فإنّ كونه صلّى الله عليه وسلم منذراً منه تعالى، لا من تلقاء نفسه، موجب للفرار، وفيه وعد كريم بنجاتهم من المهروب، وفوزهم بالمطلوب، وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هو نهي موجبٌ للفرار من سبب العقاب، بعد الأمر بالفرار من نفس العقاب، كما يُشعر به قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي:
من الجعل المنهي عنه نَذِيرٌ مُبِينٌ كأنه قيل: ففرُّوا إلى الله من عقابه، ومن سببه، وهو جعلكم مع الله إلهاً آخر.
كَذلِكَ أي: الأمر ما ذكر من تكذيبهم الرسول، وتسميتهم له ساحراً أو مجنوناً، ثم فسر ما أجمل بقوله ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل قومك مِنْ رَسُولٍ من رسل الله إِلَّا قالُوا في حقه: هو ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، فرموهم بالسحر والجنون لجهلهم، أَتَواصَوْا بِهِ، الضمير للقول، أي: أتواصى الأولون والآخرون بهذا القول، حتى قالوه جميعاً متفقين عليه، بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ أي: لم يتواصوا به لأنهم لم يتلاقوا في زمان واحد، بل جمعتهم العلة الواحدة، وهي الطغيان، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: أعرِضْ عن الذين كرّرت عليهم الدعوة، فلم يجيبوا عناداً، فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ فلا لوم عليك في إعراضك بعد ما بلّغت الرسالة، وبذلت مجهودك في البلاغ والدعوة. وَذَكِّرْ وَعِظ بالقرآن فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ الذين قدّر الله سبحانه وتعالى إيمانهم، أو آمنوا بالفعل، فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين والعلم. وبالله التوفيق.
الإشارة: الفرار إلى الله يكون من خمسة أشياء: من الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة بالتوبة، ومن الغفلة إلى اليقظة بدوام الذكر، ومن المقام مع العوائد والحظوظ إلى الزهد بالمجاهدة وخرق العوائد، ومن شهود الحس إلى شهود المعنى، وهو مقام الشهود. وفي القوت: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الفَرْد، (ففروا إلى الله) أي: من الأشكال والأضداد إلى الواحد الفرد. وفي البخاري:«معناه: من الله إليه»«١» .