للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ من الأموال في التجارة وغيرها، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يا معشرَ التُجار، أنتم فُجار إلا من اتقى وبَرَّ وصَدَق وَقَالَ بالمال «١» هكذا وهكذا» .

وقوله مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أي: من حلاله، أو من خياره، أما في الزكاة فعلى الوجوب، إذ لا يصح دفع الرديء فيها، وأما فى التطوع فعلى سبيل الكمال، وأنفقوا أيضاً من طيبات مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ من أنواع الحبوب والثمار والفواكه، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِم يَغْرِسَ غَرْساً، أَوْ يَزرَعُ زَرْعاً، فَيَأكُلُ مِنهُ إنْسَانٌ ولا دَابَّةٌ ولاَ طَائِرٌ، إلاَّ كَانَت لَهُ صدقةً إلى يَوَمِ الِقِيَامِةِ» . ولا تقصدوا الْخَبِيثَ أي: الرديء من أموالكم، فتنفقون منه وأنتم لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ في ديونكم إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا بصركم فيه، وتقبضونه حياء أو كرهاً أو مسامحة.

نزلت في قوم كانوا يتصدقون بخبيث التمر وشراره، فنُهوا عنه، وأدبهم بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن إنفاقكم، وإنما أمركم به منفعة لكم، حَمِيدٌ بقبوله وإثابته، فهو فعيل بمعنى فاعل، مبالغة، أي: يحمد فعلكم ويشكره لكم، إن أحسنتم فيه، وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللهَ قَسَم بينَكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله طيِّبٌ لا يقبلُ إلا طيباً، لا يكسبُ عبدٌ مالاً من حرام فيتصدقُ منه فيُقْبل منه، ولا ينفقُ منه فيبَارك له فيه، ولا يتركهُ خلفَ ظهره إلا كان زاده إلى النار، وإن الله لا يمحو السيّء بالسيىء ولكن يمحو السيء بالحسن، وإن الخبيث لا يمحوه الخبيث» .

الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص، أنفقوا العلوم اللدنية والأسرار الربانية، من طيبات ما كسبتم من تصفية أسراركم وتزكية أرواحكم، وأنفقوا أيضاً علوم الشريعة وأنوار الطريقة، مما أخرجنا لكم من أرض نفوسكم التي تزكت بالأعمال الصافية والأحوال المُرْضِية.

ولا تيمموا العمل الخبيث أو الحال الخبيث، تريدون أن تنفقوا منه شيئاً من تلك العلوم، فإن ذلك لا يزيد النفس إلا جهلاً وبعداً، فكما أن الحبة لا تنبت إلا في الأرض الطيبة، كذلك النفس لا تُدفن إلا في الحالة المرضية، فلا تؤخذ العلوم اللدنية من النفس حتى تدفن في أرض الخُمول، وأرض الخمول هي الأحوال المرضية، الموافقة للقواعد الشرعية، وإليه الإشارة بقوله: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي: لستم بآخذي العلم اللدني من الحال الخبيث، إلا أن تغيبوا فيه عن حِسَّكم، ومن غلبه الحال لم يبق عليه مقال. وعليها تتخرج قصة لص الحَمَّام «٢» ، فلا يقتدى به لغلبة الحال عليه، واعلموا أن الله غني حميد، لا يتقرب إليه إلا بما هو حميد. والله تعالى أعلم.


(١) أيُّ: صرف المال فى وجوه الخير، قال ابن الأثير: العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان. فتقول: قال بيده، أي: أخذه. وقال برجله، أي: مشى. وكل ذلك على المجاز.
(٢) وهو رجل عرف بالزهد وأقبل الناس عليه، فدخل حماما ولبس ثياب غيره، وخرج، فوقف فى الطريق حتى عرفه الناس، فأخذوه وضربوه، واستردوا الثياب وهجروه. قلت: ما فعل هذذا الرجل مبالغة وشطط لا يقره الشرع. وكما قال المفسر: لا يقتدى به لغلبة الحال عليه. والقصة ذكرها الغزالي في الإحياء ٣/ ٣٠٥، وابن عباد في شرح الحكم ١/ ٨٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>