ثم بيَّن مآل مَن كفر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا، أو الدالة على وحدانيتنا، سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارًا أي: نحرقهم بها ونشويهم، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي: لانت واحترقت بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها، قال صلّى الله عليه وسلم:«تُبدَّلُ في ساعةٍ مائةَ مَرَّة» . وقال الحسن:(تأكلهم النارُ في كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم وأنضجتهم قيل لهم: عودوا فيعودوان كما كانوا) . وقال مجاهد:(ما بين جلده ولحمه دود، لها جلبة- أي حركة- وهرير كجلبة حمر الوحش) . رَوى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«غلظٌ جِلدِ الكَافِرِ اثنَانٍ وأربعَونَ ذرَاعًا، وضِرسه مِثلُ أحُد» .
وإنما بدلت جلودهم لِيَذُوقُوا ألم الْعَذابَ، أي: يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه ما يريد، حَكِيماً يعاقب على قدر حكمته.
ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستفذر وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي: دائمًا لا تنسخه شمس، ولا يصحبه برد. قدَّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين، لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل: الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال:«الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ» . وقال سفيان:(بلغني إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي) . وأنشدوا:
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا ... أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب
أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه ... إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب
جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي ... وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب
وقال آخر:
إن تحسُدُوني فإني غيرُ لائمكم ... قَبَلى من الناسِ أهل الفضلِ قّد حُسِدُوا
فَدَامَ لي وَلَهُم ما كَانَ بي وبهم ... وماتَ أكثَرُنا غيظًا بما يَجِدُ