للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بدر. والحق: إنه العذاب الأخروي إذ هو الذي يُفاجأون عنده بالجؤار، فيجابون بالرد والإقناط عن النصر، وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ «١» ، فإنَّ المراد به ما جرى عليهم يوم بدر كما يأتي. وأما الجوع فإن أبا سفيان، وإن تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه بالإقناط، بل دعا لهم فكشف عنهم. وقوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ أي: يصرخون استغاثة، والجؤار: الصراخ باستغاثة. فيقال لهم: لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فإن الجؤار غيرُ نافع لكم، إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي: لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم.

قَدْ كانَتْ آياتِي القرآنية تُتْلى عَلَيْكُمْ في الدنيا، فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي: ترجعون القهقرى، وتعرضون عن سماعها أشد الإعراض، فضلاً عن تصديقها والعمل بها، والنكوص: الرجوع القهقرى، وهي أقبح المشية لأنه لا يرى ما وراءه، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ، الظاهر أن الضمير للقرآن لتقدم ذكر آياته، والباء بمعنى «عن» أي: متكبرين عن سماعه والإذعان له، أو سببية، أي: فكنتم بسبب سماعه مستكبرين عن قبوله، وعمن جاء به، أو ضَمَّن مستكبرين معنى مُكذبين، وقيل: يعود إلى البيت الحرام، أو الحرم، وأضمر ولم يذكر لأنه يفهم من السياق. والمعنى: أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام لأنهم أهله وأهل ولايته، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم، وقيل: تتعلق الباء بقوله: سامِراً أي: تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه، وكانوا يجتمعون حول البيت يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه، وفى النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، و «سامراً» : مفرد بمعنى الجمع، وقرئ سُمَّاراً، تَهْجُرُونَ «٢» ، إما من الهَجر بالفتح، بمعنى الهذيان، أي:

تهذون في شأن القرآن كما يهذو الحالم أو السكران. أو من الترك، أي: تتركونه وتفرون منه، أو تهجرون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو من «الهجر» بالضم، وهو الفحش، ويؤيده قراءة مَن قرأ: «تُهجِرون» ، من أهجر في منطقة: إذا أفحش. والله تعالى أعلم.

الإشارة: من كان قلبه في غمرة حظوظه وهواه، عاكفاً على جمع دنياه، لا يطمع في دخول حضرة مولاه، ولو صلّى وصام ألف سنة. قال القشيري: لا يَصلُحُ لهذا الشأنِ إلا من كان فارغاً من الأعمال كلها، لا شغلَ له في شأن الدنيا والآخرة، فأمَّا من شُغل بدنياه، وعلى قلبه حديثٌ من عقباه، فليس له نصيبٌ من حديث مولاه. هـ.

وفي الحديث: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهمَا كَثِيرٌ مِنَ الناس: الصّحّة والفراغ» «٣» .


(١) الآية ٧٦ من سورة المؤمنون.
(٢) قرأ نافع «تهجرون» بضم التاء وكسر الجيم، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم. انظر الإتحاف (٢/ ٢٨٦) . [.....]
(٣) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب ما جاء فى الرقاق، وأن لا عيش إلا عيش الآخرة) عن ابن عباس رضى الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>