للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صورة ناصح، لا يدفع بتعوذ ولا غيره. يُوحِي أي: يُوسوس، بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ، فيوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، ثم يوسوس شياطين الإنس إلى من يريد الحق اختباره وابتلاءه، يُلقى إليه ذلك الشيطان زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي: أباطيله، أي: قولاً مزخرفًا مُزَوَّقًا غُرُوراً أي: لأجل الغرور، فإن أراد الله خذلان ذلك العبد غره ذلك الشيطان بزخرف ذلك القول فيتبعه، وإن أراد توفيقه وزيادته أيده وعصمه، وكل شىء بقدره وقضائه، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ هدايتهم ما فعلوا ذلك الوحي، أو ما ذكر من المعاداة للأنبياء، فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ على الله من الكفر وغيره، فلا تهتم بشأنهم.

وإنما فعلنا ذلك الإيحاء لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيغتروا به، وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم، وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي: وليكتسبوا من الإثم والكفر ما هم مكتسبون بسبب ذلك الوحي من الجن أو الأنس، وفي الآية دليل لأهل السنة في أن الله خالق الكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، فالمعصية خلقها وقدرها، ولم يَرضهَا، لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ «١» .

الإشارة: كما جعل الله لكل نبي عدواً من شياطين الإنس والجن جعل للأولياء كذلك تحويشًا لهم إليه، وتطهيرًا لهم من البقايا ليصلحوا لحضرته، قال في الحِكَم: «إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يُزْعِجَكَ عن كل شيء حتى لا يَشْغَلَكَ عنه شيء» . وقال في لطائف المدن: اعلم أن أولياء الله حكمهم في بدايتهم أن يُسلط الخلق عليهم ليطهروا من البقايا، وتكمل فيهم المزايا، كي لا يساكنوا هذا الخلق باعتماد، أو يميلوا إليهم باستناد، ومن آذاك فقد أعتقك من رق إحسانه، ومن أحسن إليك فقد استرقك بوجود امتنانه، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم:

«من أسدى إليكم نعمًا فكافئوه، فإن لم تقدروا فادعوا له» . كل ذلك ليتخلص القلب من رق إحسان الخلق، ويتعلق بالملك الحق. هـ.

وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه: آذاني إنسانٌ فضقت به ذرعًا، فرأيتُ يُقال لي: مِن علامة الصديقية كثرةُ أعدائها ثم لا يبالي بهم. وقال بعضهم: الصيحة من العدو، سَوطٌ من الله يزجرُ بها القلوب إذا ساكنت غيره، وإلا رقد القلب في ظل العز والجاه، وهو حجاب عن الله تعالى عظيم. هـ.

وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضى الله عنه: (عداوة العدو حقًا: اشتغالك بمحبة الحبيب حقا، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو نال مراده منك، وفاتتك محبة الحبيب) . وقال بعض أشياخ الشعراني في بعض وصاياه له: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك فإنه هو الذي حرَّكه عليك ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا الأمر خلق كثير، فاشتغلوا بأذى مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لردهم عنهم وكفاهم أمرهم. هـ.


(١) الآية ٢٣ من سورة الأنبياء.

<<  <  ج: ص:  >  >>