ثم قال «١» : وقال ابن عباس لابنه: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج. وكان ابن مسعود يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج، لا ألقى الله عزبا. وكان معاذ رضي الله عنه مطعوناً وهو يقول: زوجوني، لا ألقى الله عزبا. وكان ماتت له زوجتان بالطاعون. وكان عُمَرُ يكثر النكاح، ويقول: لا أتزوج إلا للولد. وكان لعليّ رضي الله عنه أربع نسوة، وسبع عشرة سرية، وهو أزهد الصحابة. فدل أن تزوج النساء لا يدل على الرغبة في الدنيا.
قال سفيان: كثرة النساء ليس من الدنيا. واستدل بقضية عليّ رضي الله عنه قال: وكان أزهد الصحابة. ورُوي أن بشر الحافي رُئيَ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: رفعت إلى منازلي في الجنة فأشرفت على مقامات الأنبياء، ولم أبلغ منازل المتأهلين. وفي رواية: قال لي: ما كنت أحب أن تَلقاني عَزَباً، قال الرائي: فقلت له: ما فعل أبو نصير التمار؟ قال: رُفع فوقي بسبعين درجة بصبره على بُنياته وعياله. وقد قيل: فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد، وركعةٌ مِنْ متأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب. هـ. كلام الغزالي باختصار.
وقوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ، من جملة ما يقع فيه المحو والإثبات الواردات الإلهية التي ترد على القلوب من تجليات الغيوب فإن القلب إذا تطهر من الأكدار، وصفا من الأغيار، كان كل ما يتجلى فيه من الغيوب فهو حق، إلا أنه ينسخ بعضها بعضاً فقد يخبر الولي بأمر، يكون، أوْ لا يكون على حسب ما تجلى في قلبه، ثم يمحو الله ذلك، ويثبت في قلبه خلافه. أو يظهر في الوجود خلاف ما أخبر، وليس بكذب في حقه، ولكن الحق تعالى يُظهر لخلقه أموراً من مقدوراته، متوقفاً وجودُها على أسبابٍ وشروطٍ أخفاها الحق تعالى عن خلقه، ليظهر عجزهم عن إحاطة علمه. فالنسخ إنما يقع في فعله لا في أصل علمه.
قال الأستاذ القشيري: المشيئة لا تتعلق إلا بالحدوث، والمحو والإثبات لا يكون إلا من أوصاف الحدوث، فصفات ذات الحق- سبحانه- من كلامه وعلمه، لا يدخل تحت المحو والإثبات، إنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله. هـ. وقال سهل رضي الله عنه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ الأسباب، وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ القضاء المبرم. هـ.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ: العلم الأول الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل، ولا يقبل النسخ والتحريف. ومطالعته: بالفناء عن الحقيقة الخَلْقِية، والبقاء بالأنوار الصمدانية، والأنفاس الرحمانية. قال في القوت: والمحبة من أشرف المقامات، ليس فوقها إلا مقام الخُلَّة، وهو مقام في المعرفة الخاصة، وهي: تخلّل أسرار الغيب، فيطلع على مشاهدة المحبوب، بان يعطى إحاطة بشيء من علمه بمشيئته، على مشيئته