قلت:«عَبْداً» : بدل من «مَثَلًا» ، و «مَنْ» : نكرة موصوفة، أي: عبدًا مملوكًا، وحرا رزقناه منا رزقا حسنًا، وقيل:
موصولة. و «سِرًّا وَجَهْراً» : على إسقاط الخافض، وجمع الضمير في «يَسْتَوُونَ» لأنه للجنسين، و «رَجُلَيْنِ» : بدل من:
«مَثَلًا» .
يقول الحق جلّ جلاله: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لضعف العبودية، وعظمة الربوبية، ثم بيَّنه فقال: عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، وهذا مثال للعبد، وَمَنْ رَزَقْناهُ أي: وحرًا رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً، فَهُوَ يتصرف فيه كيف يشاء، يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، وهذا: مثال للرب تبارك وتعالى، مَثَّلَ ما يشرك به من الأصنام بالمملوك العاجز عن التصرف رأسًا، ومَثَّل لنفسه بالحر المالك الذي له مال كثير، فهو يتصرف فيه، وينفق منه كيف شاء.
وقيل: هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق. وتقييد العبد بالمملوك للتمييز من الحر فإنه أيضًا عبدٌ لله. وبسلْب القدرة عن المكاتب والمأذون في التصرف، فإن الأصنام إنما تشبه العبد الْقِنّ «١» الذي لا شوب حرية فيه، بل هي أعجز منه بكثير، فكيف تضاهي الواحد القهار، الذي لا يعجزه مقدور؟ ولذلك قال: هَلْ يَسْتَوُونَ؟ أي: العبيد العجزة، والمتصرف بالإطلاق. الْحَمْدُ لِلَّهِ على بيان الحق ووضوحه لأنها نعمة جليلة يجب الشكر عليها، أو الحمد كله لله لا يستحقه غيره، فضلاً عن العبادة لأنه مولى النعم كلها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي: لا علم لهم:
فيضيفون النعم إلى غيره ويعبدونه لأجلها، أو لا يعلمون ما يصيرون إليه من العذاب فيشركون به.
ثم ضرب الله مثلاً آخر فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، ثم بيًّنه بقوله: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ وُلد أخرس، لا يَفهم ولا يُفهم، لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الصنائع والتدابير لنقصان عقله، وَهُوَ كَلٌّ أي: ثقيل عيال عَلى مَوْلاهُ الذي يلي أمره، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ: يُرسله في حاجة أو أمر لا يَأْتِ بِخَيْرٍ بنجح وكفاية مهم. وهذا مثال للأصنام. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي: الأبكم المذكور، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ومن هو مِنطيقٌ متكلم بحوائجه، ذو كفاية ورشد، ينفع الناس ويحثهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: وهو في نفسه على طريق مستقيم، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويحصله بأقرب سعْي؟
وهذا مثال للحق تعالى، فضرب هذا المثل لإبطال المشاركة بينه وبين الأصنام، وقيل: للكافر والمؤمن.
والأصوب: كون المَثَليْن معًا في الله مع الأصنام لتكون الآية من معنى ما قبلها وما بعدها في تبيين أمر الله، والرد على أمر الأصنام. والله تعالى أعلم.
(١) العبد القنّ: الذي ملك هو وأبواه، ويقابله: عبد المملكة، الذي ملك هو دون أبويه. انظر: النهاية (قنن) .