يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بأن نسخنا الأولى لفظًا أو حكمًا، وجعلنا الثانية مكانها، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح، فلعل ما يكون في وقت، يصير مفسدة بعده، فينسخه، وما لا يكون مصلحة حينئذ، يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه. فإذا نسخ، لهذا المصلحة، قالُوا أي: الكفرة:
إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ: كذاب مُتَقوِّل على الله، تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، قال تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة النسخ ولا حقيقة القرآن، ولا يميزون الخطأ من الصواب.
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعني: جبريل. والقدس: الطهر والتنزيه لأنه روح مُنزه عن لوث البشرية. نزله مِنْ رَبِّكَ ملتبسًا بِالْحَقِّ: بالحكمة الباهرة، أو مع الحق في أمره ونهيه وإخباره، أو أنزله حقًا، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان لأنه كلام الله، ولأنهم إذا سمعوا الناسخ والمنسوخ، وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح، رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم. وَأنزله هُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لأحكامه، أي: نزله تثبيتًا وهداية وبشارة للمسلمين.
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يعنون: غلامًا نصرانيًا اسمه: جبَر، وقيل: يعيش. قيل: كانا غلامين، اسم أحدهما: جبَر، والآخر يَسارٌ، وكانا يصنعان السيوف، ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما، ويدعوهما إلى الإسلام، فقالت قريش: هذان هما اللذان يعلمان محمدًا ما يقول. قال تعالى في الرد عليهم: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ أي: لغة الرجل الذي يُمِيلُون قولَهم عن الاستقامة إليه، وينسبون إليه تعليم القرآن، أعجمي، وَهذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة. قال البيضاوي:
والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم، وتقريره يحتمل وجهين أحدهما: أن ما سمعه منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون، - أي: القرآن- ما تلقفه منه؟ وثانيهما: هب أنه تلقف منه المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن، كما هو معجز باعتبار المعنى، معجز باعتبار اللفظ، مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاولة، فكيف يعلم جميع ذلك من غلام سُوقي، سمع منه، بعض أوقات، كليمات عجمية، لعله لم يعرف معناها؟! فطعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة دليل على غاية عجزهم. هـ.
الإشارة: كما وقع النسخ في وحي أحكام، يقع في وحي إلهام فقد يتجلى في قلب الولي شيء من الأخبار الغيبية، أو يأمر بشيء يليق، في الوقت، بالتربية، ثم يُخبر أو يأمر بخلافه لوقوع النسخ أو المحو، فيظن من لا معرفة له بطريق الولاية أنه كذب، فيطعن أو يشك، فيكون ذلك قدحًا في بصيرته، وإخمادًا لنور سريرته، إن كان داخلاً تحت تربيته. والله تعالى أعلم.