للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: (قَضى) ، هنا، بمعنى حكم وأوجب وأمر، لا بمعنى القضاء إذ لو كان كذلك لما عُبد غير الله. وفي مصحف ابن مسعود: «ووصى ربك ألا تعبدوا» . و (أن) : مفسرة، أو مصدرية، أي: بأن لا تعبدوا، و (إِمَّا) : إن الشرطية دخلت عليها «ما» المؤكدة. و (فَلا تَقُلْ) : جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب في (عِنْدَكَ) ، وفيما سبق- مع أن ما سبق ضمير الجمع- للاحتراز عن التباس المراد، فإنَّ المقصود نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما.

ولو قوبل الجمع بالجمع، أو بالتثنية، لم يحصل هذا المرام.

و «أُفٍّ» : اسم فعل، معناها: قول مكروهُ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي: أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل: أُفّ لَهُ. وقال في القاموس: أَفّ، يَؤُفُّ، ويَئِفُّ: تأففَ من كَرْبٍ أوْ ضَجَر.

وأُفّ: كلمة تكره، وأفف تأفِيفًا، وتَأَفَّفَ، قالها «١» ، ولغتها أربعون، ثم ذكرها. وحركتها للبناء، وتنوينها للتنكير.

يقول الحق جلّ جلاله: وَقَضى رَبُّكَ أَمر أمْرًا مقطوعًا به، ب أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام، وهو الله وحده، وَأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً لأنهما السبب الظاهر في وجود العبد، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ في مظاهر الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تربية الحق تعالى، ظهرت في مظاهر الوالدين، لكن أمر بشكر الواسطة «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» .

ثم أمر ببرهما، فقال: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما أي: مهما بلغ زمن الكِبَرِ، وهما عندك في كفالتك، هما أو أحدهما، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي: فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسًا بطريق الأحرى. وقال في الإحياء: الأُفّ: وسخ الظفر، والتف: وسخ الأذن، أي: لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ، فأحرى غيره، وقيل: لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. هـ.

وَلا تَنْهَرْهُما ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظٍ، فإن كان لإرشاد ديني فبرفق ولين. وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً جميلاً لينًا لا غلظ فيه، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أَلِنْ لهما جانبك الذليل، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحًا، وأضافه إليه مبالغة فإنَّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض، كذلك الولد، ينبغي أن يخضع لأبويه، ويلين جانبه، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك مِنَ الرَّحْمَةِ أي: من إفراط الرحمة


(١) أي: قال كلمة «أف» .

<<  <  ج: ص:  >  >>