للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان رئيسهم في الأرض، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة، فغزوهم، فهربوا في أقطار الأرض، وأُخذ إبليس أسيرًا، فعرجوا به إلى السماء، فأسلم وتعبد في أقطار السموات، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله، فَفَسَقَ أي: خرج عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي: عن طاعته، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى إذ لولا ذلك لَمَا أبى، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق لبيان كمال قُبح ما فعله.

قال تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أي: أولاده، أو أتباعه، وهم الشياطين، جُعلوا ذريةً مجازًا. وقال قتادة:

إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل: يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين.

والهمزة للإنكار والتعجب، والفاء للتعقيب، أي: أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه، تتخذونه وذريته أَوْلِياءَ أحباء مِنْ دُونِي فتستبدلونهم، وتطيعونهم بدل طاعتي، والحال أنهم، أي: إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي: أعداء. وأُفرد تشبيهًا له بالمصدر، كالقبول والولوع، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ: الواضعين للشيء في غير محله، بَدَلًا استبدلوه من الله تعالى، وهو إبليس وذريته. وفي الالتفات إلى الغيبة، مع وضع الظاهرَ موضع الضمير، من الإيذان بكمال السخط، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح، ما لا يخفى.

ما أَشْهَدْتُهُمْ أي: ما أحضرت إبليس وذريته، أو: جميع الكفار خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، حيث خلقتهما قبل خلقهم، وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، كقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١» . قاله البيضاوي.

قلت: الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها، أي: ما أحضرتهم خلق أنفسهم، أي: ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السموات بالتخمين، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم، من كل متخوض في هذه الأشياء، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.

قال تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ من الشياطين عَضُداً أي: أعوانًا في شأن الخلق، أو في شأن من شؤوني، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي، وكان الأصل أن يقول: وما كنت متخذهم، فوقع المظهر موقع الضمير ذمًا لهم، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان، فيحتاجون إلى التصريح به. انظر أبا السعود.


(١) من الآية ٢٩ من سورة النساء.

<<  <  ج: ص:  >  >>