وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ وهو القرآن العظيم، فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يؤمن بها، أي:
لا أحد أظلم منه لأنه أظلم من كل ظالم حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ، وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من الكفر والمعاصي، ولم يتفكر في عاقبتها، إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً: أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، فعل ذلك بهم كراهة أَنْ يَفْقَهُوهُ، أو: منعناهم أن يقفوا على كنهه. وَجعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً أي: ثِقلاً يمنعهم من استماعه، وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي: فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف للطبع المتقدم على قلوبهم، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
و «إِذاً» : حرف جزاء وجواب، وهو، هنا، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم، كأنه قال صلى الله عليه وسلم: مالى لا أدعوهم؟ فقال: إن تدعهم ... الخ. وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه، كما أنَّ إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ: البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بها، لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا من المعاصي، التي من جملتها: ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل، وإعراضهم عن آيات ربهم، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات، لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ قبل يوم القيامة لاستجلاب أعمالهم لذلك، والمراد: إمهال قريش، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم القيامة، أو يوم بدر، والمعطوف عليه ببل: محذوف، أي: لكنهم ليسوا بمؤاخذين، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي: ملجأ يلتجئون إليه، أو مَنْجىً ينجون به، يقال: وأَلَ: أي: نجا، ووأل إليه: أي: التجأ إليه.
وَتِلْكَ الْقُرى أي: قرى عاد وثمود وأضرابها، أي: وأهل تلك القرى أَهْلَكْناهُمْ بالعذاب لَمَّا ظَلَمُوا أي: وقت ظلمهم، كما فعلت قريش بما حكى عنهم، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ أي: عَيَّنَّا لهلاكهم مَوْعِداً أي: وقتًا مُعَينًا، لا محيدَ لهم عن ذلك، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه. وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن