للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قالَ فتاه عليه السلام: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي: التجأنا إليها ونِمنا عندها، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي: أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ بوسوسته الشاغلة له عن ذلك، أَنْ أَذْكُرَهُ، ونسبته للشيطان هضمًا لنفسه، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان، وإن كان الكل من عند الله. وهذه الحالة، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس، حتى غاب عن الإخبار بها.

قلت: والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب، وحكمتُه ما لقي من النصب لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب، ولذلك: «حفت الجنة بالمكاره» .

ثم قال: وَاتَّخَذَ الحوتُ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً، فيه حذف، أي: فحيى الحوت، واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه، وهو كون مسلكه كالطاق، قالَ موسى عليه السلام: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه لكونه أمارة للفوز بالمرام، فَارْتَدَّا أي: رجعا عَلى طريقهما الذي جاءا منه، يَقُصَّان. يتبعان آثارِهِما قَصَصاً، حتى أتيا الصخرة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا، التنكير للتفخيم والإضافة للتعظيم، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور، واسمه: بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا، والخضر لقب له لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء، كما في حديث أبي هريرة عنه- صلى الله عليه وسلم «١» .

وقال مجاهد: سمي خضرًا لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، ثم قال: وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا. هـ. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر، فقال: كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فأبى وهرب، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه. قيل: إنه شرب من عين الحياة فمُتع بطول الحياة.

رُوِي أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ- أي: بساط- على وجه الماء، فسلم عليه. وعنه- عليه الصلاة والسّلام- أنه قال: انتهى موسى إلى الخضر، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا، وقال: عليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى: من أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال:

الذي أدراكَ بي، وذلك عليَّ.


(١) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى) .

<<  <  ج: ص:  >  >>