للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فمن أين لك هذا الولد من غير زوج؟. هذا تقرير لكون ما جاءت به فريًا منكرًا، أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش الفواحش.

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي: إلى عيسى أن كلموه، ولم تكلمهم وفاء بنذرها، وإشارتها إليه من باب الإدلال، رجوعًا لقوله لها: (وَقَرِّي عَيْناً) ، ولا تقر عينها إلا بالوفاء بما وعُدت به من العناية بأمرها والكفاية لشأنها، وذلك يقتضي انفرادها بالله وغناها به، فتدل بالإشارة. وكان ذلك طوعَ يدها، وتذكّر قضية جريج. قاله في الحاشية.

قالُوا منكرين لجوابها: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، ولم يُعهد فيما سلف صبي يكلمه عاقل.

و «كانَ» هنا: تامة. و «صَبِيًّا» : حال. وقيل: زائدة، أي: من هو في المهد.

قالَ عيسى عليه السلام: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، أنطقه الله تعالى بذلك، تحقيقًا للحق، وردًا على من يزعم ربوبيته.

قيل كان المستنطق لعيسى زكريا- عليهما السلام- وعن السدي: (لما أشارت إليه، غضبوا، وقالوا: لَسُخْرِيَتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت) . رُوِي أنه عليه السلام كان يرضع، فلما سمع ذلك ترك الرضاع، واقبل عليهم بوجهه، واتكأ على يساره، وأشار بسبابته، فقال ما قال. وقيل: كلمهم بذلك، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغًا يتكلم فيه الصبيان.

ثم قال في كلامه: آتانِيَ الْكِتابَ: الإنجيل: وَجَعَلَنِي مع ذلك نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبارَكاً: نفَّاعًا للناس، معلما للخير أَيْنَ ما كُنْتُ أي: حيثما كنت، وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ: أمرني بها أمرًا مؤكدًا، وَالزَّكاةِ زكاة الأموال، أو بتطهير النفس من الرذائل ما دُمْتُ حَيًّا فى الدنيا. وَجعلنى بَرًّا بِوالِدَتِي فهو عطف على مُبارَكاً. وقرئ بالكسر، على أنه مصدرٌ وُصف به مبالغة، وعبّر بالفعل الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم، أو بجعل ما سَيَقَع واقعًا لتحققه. ثم قال:

وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا عند الله تعالى، بل متواضعًا لينًا، سعيدًا مقربًا، فكان يقول: سلوني، فإن قلبي لين، وإني في نفسي صغير، لما أعطاه الله من التواضع.

ثم قال: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، كما تقدم على يحيى. وفيه تعريض بمن خالفه، فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده، كما في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «١» فإنه تعريض بأن العذاب على من كذّب وتولى.

فهذا آخر كلام عيسى عليه السلام، وهو أحد من تكلم في المهد، وقد تقدم ذكرهم في سورة يوسف نظمًا ونثرًا. وكلهم معروفون، غير أن ماشطة ابنة فرعون لم تشتهر حكايتها. وسأذكرها كما ذكرها الثعلبي. قال: قال ابن عباس:

(لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم مرت به ريح طيبة فقال: يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: رائحة ماشطةِ بنتِ فرعون، كانت


(١) الآية ٤٧ من سورة طه. [.....]

<<  <  ج: ص:  >  >>