للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التذكير. والإظهارُ في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم، فهلاّ يذكر أصله!، وهو أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل الحالة التي فيها، وهي حالة حياته، وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي: والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر لأن الإعادة أسهل من البدء.

قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعد ما أخرجتهم من الأرض. وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام لتحقيق الأمر، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ، وتفخيم شأنه، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، أي: حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث لتحقق وضوحه، وإنما قال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي: نجمعهم وَالشَّياطِينَ المغوين لهم، إلى المحشر، وقيل: إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم، كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا: باركين على ركَبِهم لما يدهمُهم من هول المطلع، والجثو: جلسة الذليل الخائف.

والآية كما ترى، صريحة في الكفرة، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطىء جهنم، جُثاة إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «١» فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام، قلت: ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم، كما في الحديث.

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي: من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان، أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي: من كان منهم أعصى وأعتى، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس: أي: أيهم أشد جرأة، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، وقال مقاتل: علوًا، أو غلوًا في الكفر، أو كبرًا، وقال الكلبي: قائدهم ورأسهم، أي: فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب، ثم الذي يليهم جرمًا. وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة، إذا قلنا بعموم الآية، وأما إذا خصصناها بالكفرة، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.

قال تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي: أولى بصليها وأحق بدخولها، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا، أو رؤوسهم، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.


(١) الآية ٢٨ من سورة الجاثية.

<<  <  ج: ص:  >  >>