للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الخروج إلى أمه وأخيه، فخرج بأهله، وأخذ على غير الطريق، مخافةً من ملوك الشام، فلما وافى وادي طُوى، وهو بالجانب الغربي من الطور، وُلد له ولد في ليلة مظلمة شاتية مثلجة، وكانت ليلة الجمعة، وقد ضل عن الطريق، وتفرقت ماشيته، ولا ماء عنده، فقدحَ النار فلم تُورِ المِقْدَحة.

فبينما هو في ذلك إِذْ رَأى نارًا على يسار الطريق من جانب الطور، فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي: أقيموا مكانكم. أمرهم عليه السلام بذلك لئلا يتبعوه، كما هو المعتاد من النساء. والخطاب للمرأة والخادم والولد، وقيل: لها وحدها، والجمع للتعظيم، إِنِّي آنَسْتُ أي: أبصرت نارا، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يُؤنس به. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أي: بشعلة مقتبسة من معظم النار، وهو المراد بالجذوة في سورة القصص «١» ، وبالشهاب القبس، «٢» أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هاديًا يدلني إلى الطريق، فهو مصدر بمعنى الفاعل، و (أَوْ) في الموضعين: لمنع الخلو، لا لمنع الجمع إذ يمكن أن يقتبس من النار ويجد هاديًا. ومعنى الاستعلاء في قوله: عَلَى النَّارِ لأن أهلها يستعلون عليها عند الاصطلاء، ولما كان الإيتاء بها غير محقق، صدَّر الجملة بكلمة الترجي.

فَلَمَّا أَتاها أي: النار التي آنسها. قال ابن عباس رضي الله عنه: رأى شجرة خضراء، حفت بها، من أسفلها إلى أعلاها، نارٌ بيضاء، تتَقِدُ كأضوء ما يكون، فوقت متعجبًا من شدة ضوئها، رُوي أن الشجرة كانت عوسجة، وقيل:

سَمُرَة «٣» .. بينما هو ينظر، نُودِيَ فقيل: يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، أو بأني أنا ربك، وتكرير الضمير لتأكيد الدلالة، وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة. يروى أنه لما نودي يا موسى، قال عليه السلام: مَن المتكلم؟ فقال الله عزّ وجل: (أَنَا رَبُّكَ) ، فوسوس إليه الخاطر: لعلك تسمع كلام شيطان، قال: فلما قال: (إِنَّنِي أَنَا) ، عرفت أنه كلام الله عزّ وجل. قيل: إنه سمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء.

ثم قال له: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ لأنه أليق بحسن الأدب، ومنه أخذ الصوفية- رضى الله عنهم- خلع نعالهم بين يدي المشايخ والأكابر، وقيل: ليباشر الوادي المقدس بقدميه، ومنه يؤخذ تعظيم المساجد، بخلعها ولو طاهرة، وقيل: إن نعليه كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. وقيل: النعلين: الكونين، أي: فرغ قلبك من الكونين إن أردت دخول حضرتنا. وقوله تعالى: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ: تعليل لوجوب الخلع، وبيان لسبب ورود الأمر بذلك.

رُوِي أنه عليه السلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي، و «طُوىً» : بدل من الوادي، وهو اسم له. وقرأ منونًا لتأوله بالمكان، وغير المنون لتأوله بالبقعة.


(١) فى قوله: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، من الآية ٢٩ من سورة القصص.
(٢) فى قوله: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ، من الآية ٧ من سورة النمل.
(٣) انظر تفسير الطبري (١٦/ ١٤٣) ، والبغوي (٤/ ٢٦٥) .

<<  <  ج: ص:  >  >>