للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطيًا، وأجَرَّ نَفسه عشر سنين، وضل الطريق، وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة، فكل واحدة من هذه فتنة. هـ. لكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارته نفسه وما بعدها من الفتون لأن المراد: ما وقع له قبل وصوله إلى مدين، بدليل قوله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، إذ لا ريب أن الإجارة وما بعدها كانت بعد وصوله إلى مدين، أي: لبثت عشر سنين في أهل مدين.

وقال وَهْب: لبث عند شعيب ثمانيًا وعشرين سنة، عشرًا منها في مهر امرأته صفراء بنت شعيب، وثماني عشرة أقام عنده حتى وُلد له. وأشار باللبث في مدين، دون الوصول إليها، إلى ما أصابه في تضاعيفها، من فنون الشدائد والمكاره، التي كل واحدة منها فتنة. و «مَدْيَنَ» : بلدة شعيب عليه السلام، على ثمانى يمراحل من مصر، ولم تبلغها مملكة فرعون، خوفًا على نفسه من هيبة النبوة أن يصيبه ما أصاب مَنْ خالفه.

ثُمَّ جِئْتَ إلى المكان الذي آنستَ فيه النار، ورأيتَ فيه الخوارق، وخُصصتَ فيه بالرسالة، عَلى قَدَرٍ قدرته لك في الأزل، ووقت عينته لك، لأكلمك وأرسلك فيه إلى فرعون، فما جئتَ إلا على ذلك القدَر، غير متقدم ولا متأخر، وقيل: على مقدار من الزمان، يُوحى فيه إلى الأنبياء، وهو رأس أربعين سنة. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي: اختصصتك بالرسالة والمحبة والمناجاة، وهو تذكير لقوله: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مُؤَيَّدًا بأخيه، حسبما طلب، بعد تذكيره المنن السالفة، زيادة في وثوقه عليه السلام بحصول نظائرهم اللاحقة، والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: وَفَتَنَّاكَ إلى تاء المتكلم لمناسبتها للنفس فإنها أدخل في تحقيق الاصطناع والاستخلاص. والله تعالى أعلم.

الإشارة: قال قد أوتيت سؤلك أيها الفقير، حيث وصلناك إلى من يأخذ بيدك، ويُرشدك إلى ربك ويُربيك. ولقد مننا عليك مرة أخرى، حيث أنشأناك بين أبوين مسلمين، فقذفناك في تابوت الإسلام، ثم في نهر الإيمان، ثم رميناك في بحر العرفان، وألقينا عليك محبة منا، فأحببناك وأحببتنا، وألقينا محبتك في قلوب عبادنا، فتربيت في حفظنا ورعايتنا، فلما فارقتَ الأوطان وهجرت الإخوان، في طلب تحقيق العرفان، رددناك إليهم بعد التمكين، لتنهضهم إلى الله، فتقرّ أعينهم بطاعة رب العالمين، وقتلت نفسًا كانت تحجبك عن ربك، فنجيناك من غم الحجاب، وأخرجناك من سجن الأكوان، إلى فضاء الشهود والعيان، وفتناك بمجاهدة نفسك فتونًا عظامًا، فتنة الفقر، ثم فتنة الذل، ثم فتنة هجر الأوطان، حتى تخلصت من حبس الأكوان، وجئت إلينا على قدر قدرناه لك، ووقت عيناه لفتحك، فاصطنعتك لنفسي، واجتبيتك لحضرتي بسابق عنايتي، من غير حول منك ولا قوة، فعِنايتنا فيك سابقة، فأين كنت حين واجهتك عنايتنا، وقابلتك رعايتنا؟ لم يكن في أزلنا إخلاص أعمال، ولا وجود أحوال، بل لم يكن هناك إلا محض الإفضال ووجود النوال، كما في الحكم. وأنشدوا:

<<  <  ج: ص:  >  >>