ثم عللوا خيريته وبقاءه فقالوا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن يموت على الكفر والمعاصي، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وينتهي عذابه، وهذا تحقيق لقوله:(وَأَبْقى) ، وَلا يَحْيى حياة ينتفع بها، وضمير (إِنَّهُ) : للشأن، وفيه تنبيه على فخامة مضمون الجملة لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره، مع ما فيه من زيادة التقرير، فإنَّ الضمير لا يُفهم منه أول الأمر إلاّ شأنٌ مبهَمٌ له خطر، فيبقى الذهن مترقباً لِما يعقبه، فيتمكن، عند وروده، فَضل تمكن، كأنه قيل الشأن الخطير هذا.
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً به تعالى، وما جاء من عنده من المعجزات، التي من جملتها ما شهدناه، حال كونه قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ أي: الأعمال الصالحات، وهي كل ما استقام شرعًا وخلص عقدًا، فَأُولئِكَ أي: من يأت مؤمنًا.. الخ. وجمع الإشارة باعتبار معنى «مَن» ، كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلو درجتهم وبُعد منزلتهم، أي: فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات، لَهُمُ بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحات الدَّرَجاتُ الْعُلى أي: المنازل الرفيعة، وليس فيه ما يدلّ على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل في استتباع الثواب، لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى، لا بالثواب مطلقًا.
ثم فسر تلك الدرجات، فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ أي: إقامةٍ على الخلود، حال كونها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى، الإشارة إلى ما أنتج لهم من الفوز بالدرجات العلى. والبعد في الإشارة للتفخيم، أي: ما تقدّم من الفوز بالدرجات العلى هو جزاء من تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى. وتقدم ذكر حال المجرم، للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه، ردًا على ما ادعاه فرعون بقوله: أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى، هذا وقد قيل: إن قوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ.... الخ، ابتداء كلام من الله عزّ وجل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الآية تحريض للفقراء أهل النسبة وأرباب الأحوال، على الثبوت في طريق السلوك، وعدم الرجوع عنها، حين يكثر عليهم الإنكار والتهديد، والتخويف بأنواع العذاب، فلا يكترثون بذلك ولا يتضعضعون، وليقولوا كما قال سحرة فرعون:(لن نُؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا، فاقضِ ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ... ) الآية. وقد جرى هذا على كثير من الصوفية، أُوذوا على النسبة، فمنهم من قُتل، ومنهم من طُوف، ومنهم من أُجلى عن وطنه، إلى غير ذلك مما جرى عليهم، ومع ذلك لم يرجعوا عما هم عليه، حتى وصلوا إلى حضرته تعالى وذاقوا. وما رجع مَن رجع إلا من الطريق، وأما من وصل فلا يرجع أبدًا، ولو قُطع إربًا إربًا. والله ولي المتقين.