العَجَلَة، وأيُّ شيء أعجلك منفردًا عن قومك، وقد أمرتك باستصحابهم، ولعل في إفرادك عنهم عدم اعتناء بهم؟
فأجاب عليه السلام بقوله: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي: هم هؤلاء قريبًا مني، فهُم معي، وإنما سبقتهم بخطا يسيرة، ظننت أنها لا تُخلُّ بالمعية، ولا تقدح في الاستصحاب، فإن ذلك مما لا يُعتد به فيما بين الرفقة.
قال الكواشي: ولما كان سُؤال الرب تعالى لموسى يقتضي شيئين: أحدهما: إنكار العَجَلة، والثاني: السؤال عن السبب والحامل عليها، كان أهم الأمرين إلى موسى بسَطَ العذر وتمهيد العلة في نفس ما أنكر عليه، فاعتل أن قال:
إن ما وُجدَ مني تقدم يسير، لا يُعتد بمثله في العادة لقربه، كما يتقدم الوفدَ رئيسُهم ومُتقدمُهم، ثم عقبه بجواب السؤال فقال: عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى لتزادد عني رضا لمسارعتي إلى الامتثال لأمرك، واعتنائي بالوفاء بعهدك لأنه ظن أن إسراعه إليه أبلغ في رضاه. وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد للأنبياء- عليهم السلام- والمعنى: لتعلم أني أُحبك ولا قرار لي مع غيرك. هـ.
وقال القشيري: (هم أولاء على أثري) ما خلَّفْتُهم لتضييعي إياهم، ولكن عَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى. قال:
يا موسى، رضائي في أن تكون مَعهم، ولا تتقدمهم ولا تَسْبِقَهم، وكونُكَ مع الضعفاءِ، الذين استصحبتهم في حصول رضاي، أبلغُ مِن تَقَدُّمِكَ عليهم. هـ.
قالَ له تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ أي: ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم.
رُوِيَ أنهم أقاموا على ما وصاهم به موسى عليه السلام عشرين ليلة، بعد ذهابه، فحسبوها مع أيامها أربعين، وقالوا: قد أكملنا العدة، وليس من موسى عين ولا أثر، وكان وعدهم أن يغيب عنهم أربعين يومًا، واستخلف هارون على من بقي منهم، وكانوا ستمائة ألف، فافتتنوا بعبادة العجل كلهم، ما نجا منهم إلا اثنا عشر ألفًا. وهذا معنى قوله تعالى:
وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، حيث كان هو السبب في فتنتهم، فقال لهم: إنما أخلف موسى عليه السلام ميعادكم لِمَا معكم من حُليّ القوم، فهو حرام عليكم، فكان من أمر العِجل ما يأتي تفسيره إن شاء الله. فإخباره تعالى بهذه الفتنة عند قدومه عليه السلام، قبل وقوعها، إما باعتبار تحققها في علمه تعالى، وإما باعتبار التعبير عن المتوقع بالواقع، كما في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «١» ، أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام، وتصدى لها بترتيب مبادئها، فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها.
والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل، يقال لها: سامرة، وقيل: كان رجلاً من كرمان. وقال ابنُ عباس:
كان من قرية يعبدون البقر، فدخل في بني إسرائيل وأظهر الإسلام، وفي قلبه ما فيه من حب عبادة البقر، فابتلى اللهُ به بني إسرائيل، واسمه: موسى بن ظفر.
(١) من الآية ٤٤ من سورة الأعراف.