يقول الحق جلّ جلاله: وَكَذلِكَ أي: ومثل ذلك الإنزال المتقدم، أَنْزَلْناهُ أي: القرآن كله، وإضماره، من غير سبقية ذكره للإيذان بنباهة شأنه، وكونه مركوزًا في العقول، حاضرًا في الأذهان، حال كونه: قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهمه العرب، ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز، الدال على كونه خارجًا عن طوق البشر، نازلاً من عند خلاّق القوى والقُدَر. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي: كررنا فيه بعض الوعيد، أو من جنس الوعيد، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: كي يتقوا الكفر والمعاصي بالفعل، أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً اتعاظًا واعتبارًا يؤديهم إلى الاتقاء، فَتَعالَى اللَّهُ أي: تعاظم شأنه عما يصفه الكفرة، وتهاون العصاة، الذين لم يُحدث فيهم القرآن زجرًا ولا وعظًا، أي: ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله، الْمَلِكُ لها، النافذ أمره ونهيه، الحقيق بأن يُرجى وعده، ويُخشى وعيده، الْحَقُّ في ألوهيته لذاته، أو الثابت الذي لا يمكن عدمه، أزلاً وأبدًا.
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي: وإذا كنا أنزلنا عليك قرآنًا عربيًا، وصرفنا فيه من الوعيد، فَأَمْهِلْ عند نزوله، حتى يقرأه عليك الملك، ولا تعجل به قبل أن يتم وحيه، ويفرغ من قراءته عليك.
كان صلى الله عليه وسلم، إذا ألقى جبريلُ عليه الوحي، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ، فنهى عن ذلك لأنه ربما يشغله التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ولأنَّ المراد من الألفاظ فهم المعاني المتضمنة للعلوم التي لا حصر لها، ولذلك أمره باستفاضة العلم واستزادته منه فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: وقل في نفسك، أو بلسانك: رب زدني علمًا، والمراد: سل الله عزّ وجلّ زيادة العلم به وبأحكامه إذ لا نهاية لعلمه كما لا نهاية لذاته، فإنه الموصل إلى مطلبك دون الاستعجال. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وكذلك أنزلناه قرآنًا عربيًا، يُعرب عن كمال ظهور ذاته وأنوار صفاته، وصرفنا فيه من الوعيد، لمن تخلف عن شهوده، بعد كمال ظهوره، لعلهم يتقون ما يحجبهم عن رؤيته، أو يُحدث لهم ذكرًا، أي: شوقًا يُزعجهم إلى النهوض إلى حضرته، والوصول إليه، فتعالى الله الملك الحق أن يتصل بشيء، أو يتصل به شيء «١» ، وإنما الوصول إليه: العلم بإحاطته ووحدة ذاته.
ولا تعجل، أيها العارف، بالقرآن الذي ينزل على قلبك من وحي الإلهام، مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إليك وحيه، فإنَّ الواردات الإلهية تأتي مجملة، وبعد الوعي يكون البيان، (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)
، ولكن استزد من ربك العلوم اللدنية والكشوفات الإلهية، أي: لا يكن همك استعجالَ الواردات أو بقاءها، وليكن همك استزادةُ العلوم ومعرفة واهبها، فإن العلوم وسائل لمعرفة المعلوم، والوصول للحي القيوم. وبالله التوفيق.
(١) رحم الله الشيخ ابن عجيبة، وأثابه على هذه الكلمة العظيمة. ولنا أن نفهم منها نفى الحلول والاتحاد، الذي هو مذهب أهل الزيغ والإلحاد.