للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالطريق البرهاني، أي: اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه، حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه، فقد أمرنا الملائكة بالسجود فَسَجَدُوا كلهم إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى السجود واستكبر، أو فعل الإباء وأظهره.

فَقُلْنا عقب ذلك، اعتناء بنصحه، وهو العهد الذي عهدناه إليه: يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي رأيته فَعَلَ ما فعل عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ حيث لم يرض بالسجود لك، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ أي: لا يكونن سببًا لإخراجكما من الجنة، والمراد: نهيهما عن الاغترار به، فَتَشْقى: جواب النهي، أي: فتتعب بما ينالكما من شدائد الدنيا، من الجوع والعطش، والفقر والضر، وتعب الأبدان في تحصيل المعاش واللباس، فيكون عيشك من كد يمينك. قال ابن جبير: (اهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يَحرث عليه، ويمسح العرق عن جبينه، فهو شقاؤه) . ولم يقل: فتشقيا لأنه غلَّب الذِّكَرَ لأن تعبه أكثر، مع مراعاة الفواصل.

قال تعالى له: إِنَّ لَكَ يا آدم أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى من فقد اللباس، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا:

لا تعطش فِيها، وَلا تَضْحى تبرزُ للشمس فيؤذيك حرها، إذ ليس في الجنة شمس ولا زمهرير. والعدول عن التصريح له بما في الجنة من فنون النِعَم من المآكل والمشارب، والتمتع بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية- مع أن فيها من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى- إلى ما ذكر من نفي نقائضها، التي هي الجوع والعطش والعري والضحو لتنفير تلك الأمور المنكرة ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، على أن الترغيب قد حصل له بما أباح له من التمتع بجميع ما فيها، سوى ما استثنى من الشجرة، حسبما نطق به قوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما «١» ، وقد طوي ذكرها هنا اكتفاءً بما في موضع آخر، واقتصر هناك على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب، ونفي الجوع وما بعده عن أهل الجنة لأنهم لا يُعْوزون طعامًا ولا شرابًا ولا كِنَّا، بل كلما تمتعوا بشيء مما ذكر، أتبعهم بأمثاله أو أفضل منه، من غير أن ينتهوا إلى حد الضرورة.

قال تعالى: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أي: أنهى إليه وسوسته، أو أسرها إليه، قالَ فيها: يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ؟ أي: شجرة من أكل منها خلد، ولم يمت أصلاً، سواء كان على حاله، أو بأن يكون ملكا، وَأدلك على مُلْكٍ لا يَبْلى أي: لا يفنى ولا يزول، ولا يَخْتَلُّ بوجه من الوجوه، فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال ابن عباس رضي الله عنه: عَريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما، حتى بدت فروجهما.

وَطَفِقا يَخْصِفانِ يَرْقََعانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وقد تقدم فى الأعراف «٢» .


(١) من الآية ٣٥ من سورة البقرة.
(٢) راجع تفسير الآية ٢٢ من سورة الأعراف.

<<  <  ج: ص:  >  >>