للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتوجيه الخطاب إلى الكفرة في السؤال، بعد توجيهه إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- في الإرسال لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك العلوم والحقائق الأنيقة، وأما الوقوفُ عليها باستخبار من الغير فهو من وظائف العوام.

ثم بيَّن كون الرسل- عليهم الصلاة والسلام- أسوة لأفراد الجنس في أحكام البشرية، فقال: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً أي: أجسادًا، فالإفراد لإرادة الجنس، أو ذوي جسد، لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ أي: وما جعلناهم أجسادًا صمدانيين، أغنياء عن الطعام والشراب، بل مُحتاجين إلى ذلك لتحقيق العبودية التي اقتضت شرفهم. وَما كانُوا خالِدِينَ لأن كل مَن يفتقر إلى الغذاء لا بد يتحلل بدنه بسرعة، حسبما جرت العادة الإلهية، والمراد بالخلود: المكث المديد، كما هو شأن الملائكة أو الأبدية. وهم معتقدون أنهم كانوا يموتون. والمعنى: بل جعلناهم أجسادًا مفتقرة صائرة إلى الموت عند انقضاء آجالهم، لا ملائكة ولا أجسادًا صمدانية.

ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ بالنصر وإهلاك أعدائهم، وهو عطف على ما يُفْهَمُ من وحيه تعالى إليهم، كأنه قيل:

أوحينا إليهم ما أوحينا، ثم صدقناهم في الوعد، الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي، بإهلاك أعدائهم، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ من المؤمنين وغيرهم، ممن تستدعي الحكمة إبقاءه، كمن سَيُؤمن هو أو بعض فروعه، وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال. أو يخص هذا العموم بغير نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم فإن أمته لا تستأصل، وإن بقي فيها من يكفر بالله لعل الله يُخرج من أصلابهم مَن يُوحد الله تعالى. وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ أي: المجاوزين الحد في الكفر والمعاصي.

ولمّا ذكر برهان حَقِّيَّةِ الرسول- عليه الصلاة والسلام- ذكر حقية القرآن المنزل عليه، الذي ذكر في صدر السورة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته، فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ، صدّره بالقسم إظهارًا لمزيد الاعتناء بمضمونه، وإيذانًا بكون المخاطبين في أقصى مراتب التنكير، أي: والله لقد أنزلنا إليكم، يا معشر قريش، كِتاباً عظيم الشأن نيّر البرهان. فالتنكير للتفخيم، أي: كتابًا جليل القدر فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: شرفكم وحسن صيتكم، كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «١» ، أو فيه تذكيركم وموعظتكم، أو ما تحتاجون إليه في أمر دينكم ودنياكم، أو ما تطلبون به حسن الذكر والثناء من مكارم الأخلاق، أَفَلا تَعْقِلُونَ فتتدبروا في معانيه حتى تُدركوا حقيته. فالهمزة للإنكار التوبيخي. وفيه حث لهم على التدبر في أمر الكتاب، والتأمل في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر، التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة، والمعطوف: محذوف، أي: أَعَمِيَتْ بصائركم فلا تعقلون؟ والله تعالى أعلم.


(١) مِنْ الآية ٤٤ من سورة الزخرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>