للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بطريق الاستهزاء والتوبيخ: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من النعم والتلذذ وَإلى مَساكِنِكُمْ التي كنتم تفتخرون بها، لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تقصدون للسؤال، إذ كانوا أغنياء، أو للتشاور والتدبر في المهمات والنوازل، أو تُسألون الفداء فَتُفتدَوْا من العذاب، أو تُسألون عن قتل نبيكم وفيم قتلتموه.

قيل: نزلت في أهل حاضُورا، قرية باليمن، وكان أهلها العرب، فبعث الله إليهم نبيًا فكذبوه وقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بُخْتنصَّرْ، فقتلهم وسباهم، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة: لا تركضوا، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم استهزاءً بهم، وأتبعهم بُختنصر، فأخذتهم السيوف، ونادى منادٍ من السماء: يا لَثَارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم، فقالوا: يا وَيْلَنا يا هَلاَكنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ مستوجبين العذاب. وهذا اعتراف منهم وندَم حين لم ينفعهم ذلك.

فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي: فما زالوا يُرددون تلك الكلمة، ويدعون بها، ويقولون: يا ويلنا، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً أي: مثل الحصيد، وهو المحصود من الزرع والنبات، فهو فعيل بمعنى مفعول، فلذلك لم يجمع، كجريح وقتيل. وجعلناهم خامِدِينَ ميتين، من خمدت النار إذا طفئت. وهو، مع «حَصِيداً» ، في حيز المفعول الثاني لجعل، كقولك: جعلته حلوًا حامضًا، والمعنى: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، أو حال من الضمير المنصوب في «جَعَلْناهُمْ» ، ولفظ الآية يقتضي العموم. والله تعالى أعلم.

الإشارة: وكم من قريةٍ من قرى القلوب قصمنا أهلها، أي: ما فيها من الشكوك والأوهام، كانت ظالمة بتلك الخواطر، فأخرجناهم منها، وأنشأنا بعدها أنوارًا وأسرارًا وعلومًا آخرين. فلما أحسوا بأسنا بورود الواردات الإلهية عليها، التي تأتي من حضرة القهار، إذا هم منها يركضون لأن الواردات الإلهية تأتي من حضرة القهّار، لأجل ذلك لا تصادم شيئًا من الظلمات إلا دمغته، فيقال لتلك الظلمات، التي هي الشكوك والأوهام: لا تركضوا، ولكن ارجعوا أنوارًا، وانقلبوا وارداتٍ وأسرارًا، وتنعموا في محلكم بشهود الحق، لعلكم تُسألون، أي: تُسْتَفْتَوْنَ في الأمور، لأن القلب إذا صفا من الأكدار استفتى في العلوم، وفي الأمور التي تعرض، قالوا بلسان الحال- أي تلك الظلمات-:

يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين بحجب صاحبنا عن الله، فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى صاروا خامدين، هامدين، ساكنين تحت مجاري الأقدار، مطمئنين بالله الواحد القهار، وهذه إشارة دقيقة، لا يفهمها إلا دقيق الفهم غزير العلم. وبالله التوفيق.

ثم بيّن أن إهلاك تلك القرى الظالمة كان لحكمة بليغة ومصلحة بديعة، ولم يكن عبثا لأنه تعالى مُنزه عن اللعب فى خلقه، فقال:

<<  <  ج: ص:  >  >>