إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه، قائلين: لَقَدْ عَلِمْتَ يا إبراهيم ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، فكيف تأمرنا بسؤالها؟.
قالَ مبكتًا لهم وتوبيخًا: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: متجاوزين عبادته تعالى إلى ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من النفع، وَلا يَضُرُّكُمْ إن لم تعبدوه، فإنَّ العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يُوجب اجتناب عبادته، أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أُفّ: اسم صوت تدل على التضجر، تَضجر عليه السلام من إصرارهم على الباطل، بعد انقطاع عذرهم ووضوح الحق، فأفَّف بهم وبأصنامهم، أي: لكم ولأصناكم هذا التأفف، أَفَلا تَعْقِلُونَ أن من هذا وصفه لا يستحق أن يكون إلهًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من أراد أن يكون إبراهيميًا حنيفيًا فليكسر أصنام نفسه، وهي ما كانت تهواه وتميل إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية، حتى تنقلب حقوقًا ربانية، فحينئذ يريه الحق ملكوت السموات والأرض، ويكون من الموقنين. وأمُّ الشهوات: حب الدنيا، ورأسها: حب الرئاسة والجاه، وأكبر الأصنام: وجودك الحسي، فلا حجاب أعظم منه، ولذلك قيل:
وُجودُكَ ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب فإن غبتَ عنه، وكسرته، غابت عنك جميعُ العوالم الحسية، وشهدت أسرار المعاني القدسية، فشهدت أسرار الذات وأنوار الصفات، وإلى هذا المعنى أشار ابن العريف رضى الله عنه بقوله:
فالغيبة عن وجود العبد فناء، والرجوع إليه لوظائف العبودية بقاء، وإليه الإشارة بقوله تعالى:(إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) أي: إلا كبير الأصنام، وهو وجودك الوهمي، فلا ينبغي الغيبة عنه بالكلية حتى يترك وظائف العبودية والقيام بحقوق البشرية، فإنَّ هذا اصطلام، بل ينبغي ملاحظته، لعله يقع الرجوع إليه في مقام البقاء، والله تعالى أعلم.