للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما حُكْم إفساد المواشي للزرع في شرعنا: فقال مالك والشافعي: يضمن أربابُ المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك «١» ، على تفصيل في مذهب مالك فيما أفسدت بالنهار. وقال أبو حنيفة:

لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار لقوله عليه الصلاة والسلام: - «العَجْماءُ جُرْحُها جُبَار» «٢» ، ما لم يكن معها سائق أو قائد، فيضمن عنده.

قال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً أي: كل واحد منهما آتيناه حكمًا، أي: نبوة، وعلمًا: معرفة بمواجب الحكم، لا سليمان وحده. وفيه دليل على أنَّ خطأ المجتهد لا يقدح في علمه ولا يرفع عنه صفة الاجتهاد.

ثم بيَّن ما اختص به كل واحد منهما من المعجزات، فقال: وَسَخَّرْنا أي: ذللنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ، حال كونها يُسَبِّحْنَ أي: مسبحات ينزهْنَ الله تعالى بلسان المقال، كما سبّح الحصا في كف نبينا عليه الصلاة والسلام. وَسخرنا له الطَّيْرَ كانت تسبح معه. وقدَّم الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد. قال الكواشي: كان داود إذا سبّح سبّح معه الجبالُ والطير، وكان يفهم تسبيح الحجر والشجر، وكان إذا فتَر من التسبيح، يُسمعه الله تعالى تسبيح الجبال والطير لينشط في التسبيح ويشتاق إليه. ورُوي أنه كان إذا سار سارت الجبال معه مسبحة، قال قتادة: «يُسبحن» ، أي: يصلين معه إذا صلى، وهذا غير ممتنع في قدرة الله تعالى. وفي الأثر: «كان داود يمرُّ، وصِفَاح الروحاءُ تجاوبه، والطير تساعده» .

وَكُنَّا فاعِلِينَ بالأنبياء أمثال هذا وأكثر، فليس ذلك ببدع منا ولا صعب على قدرتنا.

وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي: صنعة الدروع. واللبوس لغة في اللباس، والمراد: الدرع، لَكُمْ أي: نافع لكم، لِتُحْصِنَكُمْ «٣» أي: اللبوس، أو داود. وقرئ بالتأنيث، أي: الصنعة، أو اللبوس بتأويل الدرع. وقرئ بنون العظمة، أي: الله تعالى، وهو بدل اشتمال من «لكم» . وقوله: مِنْ بَأْسِكُمْ أي: من حرب عدوكم، أو من وقع السلاح فيكم، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ الله على ذلك؟ وهو استفهام بمعنى الأمر للمبالغة والتقريع.

ثم ذكر ما اختص به سليمان عليه السلام فقال: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي: وسخرنا له الريح. وإيراد اللام هنا، دون الأولى للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت، فإن تسخير ما سخر لسليمان عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي والامتثال لأمره ونهيه، بخلاف تسخير الجبال، لم يكن بهذه المثابة، بل بطريق التبعية والاقتداء. حال كون الريح


(١) عن البراء بن عازب: «كانت له ناقة ضارية، فدخلت حائطا، فأفسدت فيه، فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بأن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل» أخرجه أبو داود فى (البيوع، باب المواشي تفسد زرع القوم) وابن ماجه فى (الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشي) . [.....]
(٢) أخرجه البخاري فى (الزكاة: باب فى الركاز الخمس) ، ومسلم فى (الحدود، باب جرح العجماء) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(٣) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص «لتحصنكم» بالتاء، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالنون، وقرأ الآخرون (ليحصنكم) بالياء. انظر الإتحاف (٢/ ٢٦٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>