للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم ذكر الحق تعالى كيفية ابتداء نسخ القبلة، فقال:

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...

قلت: التقلب: التردد، وولَّيْت كذا: جعلته والياً له، والشَّطْر هنا: الجهة.

يقول الحق جلّ جلاله لنبيه- عليه الصلاة والسلام- حين تمنى أن يُحَول إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأدْعى إلى إسلام العرب، وهي أقدم القبلتين، فكان ينظر إلى السماء، ويقلب وجهه فيها انتظاراً لنزول الوحْي، وهذا من كمال أدبه- عليه الصلاة والسلام- حيث انتظر ولم يطلب، فقال له الحق تعالى: قَدْ نَرى أي:

ربما نرى تردد وَجْهِكَ فِي السَّماءِ انتظاراً للوحي، فلنعطينك ما تمنيت، ونوجهك إلى قبلة تَرْضاها وتحبها لمقاصد دينية وافقت المشيئة، واقتضتها الحكمة، فَوَلِّ وَجْهَكَ أي: اجعله موالياً شَطْرَ أي: جهة الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ أيها المؤمنون أي في أي مكان كنتم فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ جهته.

وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد، أي: جهته، دون عين الكعبة لأنه- عليه الصلاة والسلام- كان في المدينة، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه، بخلاف القريب، فإنه يسهل عليه مسامته العين «١» ، وقيل: أن جبريل- عليه السلام- عيّنها له بالوحي فسميت قبلة وحْي.

رُوِيَ أنه صلّى الله عليه وسلّم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم وُجِّه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلّى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة، واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم، فسُمي مسجد القبلتين. قاله البيضاوي.

الإشارة: في الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب، وفي الحكم: «ربما دلهم الأدب على ترك الطلب، كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً في قضائه السابق؟! جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل» . فإذا تمنيت شيئاً وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك- عليه الصلاة والسلام- حتى يعطيك ما ترضى، أو يعوضك منها مقام الرضا. وفي المسألة كلام، والتحقيق أن ينظر إلى ما ينشرح به صدره في الوقت، فإن انشرح للدعاء دعا، وإن انقبض عن الدعاء سكت. والله يرزق من يشاء بغير حساب ولا علّة ولا أسباب.


(١) سامته: قابله ووازاه وواجهه.

<<  <  ج: ص:  >  >>