ثم بيَّن الفصل بينهم، المذكور في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، فقال: فَالَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ أي: فصّلت وقُدرت على مقادير جثثهم، تشتمل عليهم، كما تقطع الثياب للبوس. وعبَّر بالماضي لتحقق وقوعه. يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي: الماء الحار. عن ابن عباس رضى الله عنه:«لو سقطت منه نقطة على الجبال الدنيا لأذابتها» . يُصْهَرُ: يُذاب بِهِ أي: بالحميم، ما فِي بُطُونِهِمْ من الأمعاء والأحشاء، وَالْجُلُودُ تذاب أيضًا، فيُؤثر في الظاهر والباطن، كلما نضجت جلودهم بُدلت.
وتقديم ما في الباطن للإيذان بأن تأثيرها في الباطن أقوى من تأثيرها في الظاهر، مع أن ملابستها على العكس.
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ أي: ولتعذيب الكفرة، أو لأجلهم، مقامع: جمع مقمعة، وهي آلة القمع، أي: سيَاط من حديد، يُضربون بها. كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي: أشرفوا على الخروج من النار، ودنوا منه، حسبما رُويَ: أنها تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا بأعلاها ضُربوا بالمقامع، فَهَوَوْا فيها سبعين خريفًا. وقوله:
مِنْ غَمٍّ: بدل اشتمال من ضمير (منها) بإعادة الجار، والعائد: محذوف، أي: كلما أرادوا أن يخرجوا من غم شديد من غمومها أُعِيدُوا فِيها أي: في قعرها، بأن رُدوا من أعاليها إلى أسافلها، من غير أن يخرجوا منها، وَقيل لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي: الغليظ من النار، العظيم الإحراق.
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر، وهم أهل الحق، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وغيَّر الأسلوب فيه، بإسناد الإدخال إلى الله عزَّ وجَلَّ، وتصدير الجملة بحرف التأكيد إيذانًا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة، وإظهارًا لمزيد العناية بحال المؤمنين، يُحَلَّوْنَ فِيها من التحلية، وهو التزين، أي: تحليهم الملائكة بأمره تعالى مِنْ أَساوِرَ أي: بعض أساور: جمع سوار، مِنْ ذَهَبٍ للبيان، أي: يلبسون أساور مصنوعة من ذهب، وَلُؤْلُؤاً، من جَرَّهُ: عَطَفَهُ على «ذهب» ، أو «أساور» ، ومَنْ نَصَبَهُ:
فعلى محل «من أساور» ، أي: ويُحَلَّوْنَ لؤلؤًا، أو بفعل محذوف، أي: ويُؤْتَوْنَ لؤلؤًا. وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ:
أبريسِمْ، وغيَّر الأسلوب، فلم يقل: ويلبسون حريرًا لأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان، إذ لا يمكن عراؤهم عنه، وإنما المحتاج للبيان: أيُّ لباس هو، بخلاف الأساور واللؤلؤ، فإنها ليست من اللوازم الضرورية، فجعل بيان حليتهم بها مقصودًا بالذات. انظر أبا السعود.
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، وهو كلمة التوحيد: لا إله إلا الله أو: الحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، بدليل قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ «١»
. وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي: المحمود، وهو الإسلام. أو: