الإشارة: يا أيها الذين آمنوا تقربوا إليَّ بأنواع الطاعات وبالمسارعة إلى الخيرات، لعلكم تفوزون بمعرفة أسرار الذات وأنوار الصفات، وجاهدوا نفوسكم بأنواع المجاهدات، كي أجتبِيكم وأنزهكم في أسرار ذاتي، فإني قد اجتبيتكم قبل كونكم في أزل أزلي. وكأنه يشير إلى قوله:«لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به ... » الحديث.
والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة، من غير تشديد ولا تعقيد، لقوله:(وما جعل عليكم في الدين من حَرج) لأن مبني الشرع الكريم على السهولة، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه. «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه» . كما في الحِكَم.
وقال الورتجبي:(وَما جَعَلَ..) الآية، أي: إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه. ألا ترى كيف قال:(ملة أبيكم إبراهيم) ، ومن ملته: الاستسلام والانقياد، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم، يا أسباط خليلي، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم، قبل وجودكم بنور النبوة، فسماكم المسلمين، أي: منقادين بين يديَّ، عارفين بوحدانيتي. وفيما ذكرنا من أوصافكم، حبيبي شاهد عليكم، يعرف هذه الفضائل منكم، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم. ثم قال: اطلبوا الاعتصام مني، استعينوا لأقويكم في طاعتي. ثم قال:(فنعم المولى) حيث لا مولى غيره، (ونعم النصير) حيث لا يُخذل من نصره فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص. قال جعفر في قوله:(حق جهاده) : ألاَّ تختارَ عليه شيئًا، كما لم يختر عليك لقوله:(هو اجتباكم) . هـ.
وقوله تعالى:(وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ... ) الآية: أي: اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين، لتكونوا مرضيين عدولاً، تشهدون على الأمم، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم، فهو كقوله تعالى: جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ ... «١» الخ. وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه، فهو خير ولي وناصر، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز، ولذلك افتتح السورة التي تليها به. وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.