للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يدخل الجنة أحد غيرهم إلى ميقاتها إلا الصدِّيقون، وهم العارفون، فهم أعظم من الجميع لمزيد تصرف وإدراك وسعة روح وريحان، وتحقق شهود وعيان، فهم في نعيم الجنان كالشهداء، لكن الصديقين غير محصورين في حواصل الطيور، بل لهم هياكل وصور سرحوا بها حيث شاءوا. وكذلك من فوقهم من الأنبياء والرسل، والله تعالى أعلم.

ثم قال الحق جلّ جلاله: ولنختبركم يا معشر المسلمين بِشَيْءٍ قليل مِنَ الْخَوْفِ لهيجان العدو وصولة الكفار، وَالْجُوعِ لغلاء الأسعار وقلة الثمار، وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ بموت الحيوان وتعذر التجارة أو الخسران، وَالْأَنْفُسِ بالموت في الجهاد، وَالثَّمَراتِ بذهابها بالجوائح.

وعن الشافعي رضي الله عنه (الخوفُ خوفُ الله، والجوعُ صومُ رمضان، والنقصُ من الأموال بالزكوات والصدقات، ومن الأنفسُ بالأمراض، ومن الثمرات مَوتُ الأولاد) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا ماتَ ولَدُ العبد قال اللهَ للملائكةِ:

أقَبَضْتُمْ ولَدَ عَبدي؟ فيقولون: نَعَم. فيقولُ اللهُ تعالى: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول اللهُ تعالى: ماذا قال؟

فيقولون: حَمِدَك واستَرْجَع، فيقول الله تعالى: ابْنُوا لعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ وسَمُّوه بَيْتَ الحمدِ» .

وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ يا من تتأتَّى منه البشارة الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ في بدن أو أهل أو مال أو صاحب قالُوا إِنَّا لِلَّهِ ملكاً وعبيداً يحكم فينا بما يريد، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فيجازينا بما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فتغيب مصائب الدنيا في جانبه.

وفي الحديث: «من أصابته مُصيبةٌ فقال: إنَّا لله وإنّا إليه راجعُون. اللهم أجُرْنِي في مُصيبَتِي واخْلُفْ لي خَيْراً منها، إلا أَخْلَفَ الله له خيراً مما أصابه» قالت أم سَلَمَة: فلما ماتَ زوجي أبو سَلَمَة قلتَ ذلك، فأبدلني الله برسوله صلّى الله عليه وسلّم.

أُولئِكَ الصابرون الراجعون إلى الله عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ أي: مغفرة وتطهير مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ أي:

عطف ولطف وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ لكل خير في الدنيا والآخرة.

الإشارة: يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس من ترك الحظوظ والشهوات، والميل إلى العادات والمألوفات، وبالصلاة الدائمة وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالمعونة والتأييد، وإشراق أنوار التوحيد، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار، وخرق العوائد وخلع العذار: إنه قد مات، بل هو حي لا يموت، قال

<<  <  ج: ص:  >  >>