للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ليس لهم رزانة عقل، ولا إصابة رأي، وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي. وهذا من كمال سخافة عقولهم، وقصر نظرهم على حطام الدنيا حتى اعتقدوا أن الأشرف مَنْ جَمَعَهَا، والأرذل مَنْ حُرمَها. وقد جهلوا بأنها لا تزن عندَ الله جَنَاحَ بعُوضَةٍ، وأن النعيم هو نعيم الآخرة، والأشرف مَنْ فازَ بِه، وسكن في جوار الله، والأرذل من حُرم ذلك.

قال القشيري: ذكر ما لَقِيَ من قومه، وقوله: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، وكذلك أتباع الرسل، إنما هم الأضعفون، لكنهم- في حُكم الله- هم المقدّمون الأكرمون، قال صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بضعفائكم» «١» ، إلخ كلامه.

قالَ وَما عِلْمِي أي: وأيّ شيء علمي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الصناعات، إنما أطلب منهم الإيمان.

وقيل: إنهم طعنوا في إيمانهم، وقالوا: لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة، وإنما اتبعوك طمعاً في العدة والمال، أي: وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر، دون التنقير على بواطنهم، والشق عن قلوبهم، إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي أي:

ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كيفياتها إلا على ربي فإنه المطلع على السرائر، لَوْ تَشْعُرُونَ بشيء من الأشياء، أو: لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك، ولكنكم كالبهائم أو أضل.

وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليس من شأني أن أتبع شهواتكم، فأطرد المؤمنين طمعاً في إيمانكم، وهو جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك، حيث جعلوا اتباعهم له مانعاً عنه، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ وما علي إلا أن أُنذركم إنذاراً بيّناً بالبرهان القاطع، وأنتم أعلم بشأنكم، أي: وما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين، سواء كانوا أعزاء أو أراذل، فكيف يمكنني طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المقتولين بالحجارة. قالوه في آخر أمره.

قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ تمادوا على تكذيبي، وأصروا عليه، بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة، فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً، وليس هذا من قبيل الإخبار لأن الله لا يخفى عليه شيء، وإنما هو تضرع وابتهال، بدليل قوله: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً أي: احكم بيني وبينهم بما يستحقه كل واحد منا، وهذه حكاية إجمالية، قد فصلت في سورة نوح وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من شرهم، أو من شؤم عملهم.


(١) أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب من استعان بالضعفاء والصالحين فى الحرب ح ٢٨٩٦) ، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، بلفظ: «هل تنصرون إلا بضعفائكم» ، وأخرجه أحمد فى المسند (٥/ ١٩٨) ، والترمذي فى (الجهاد، باب الاستفتاح بصعاليك المسلمين، ٤/ ١٧٩، ح ١٧٠٢) ، وأبو داود فى (الجهاد، باب فى الانتصار برذل الخيل والضعفة ٣/ ٧٣، ح ٢٥٩٤) ، من حديث أبى الدرداء، بلفظ: «ابغوني فى الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» .
قال المنذرى: ومعناه: أن عبادة الضعفاء ودعاءهم أشد إخلاصا لخلو قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا، وجعلوا همهم واحدا، فأجيب دعاؤهم، وربحت أعمالهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>