للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي: إلى بلقيس وقومها لأنه ذكرهم معها في قوله: وَجَدْتُها وَقَوْمَها، وبنى الخطاب على لفظ الجمع لذلك.

ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي: تنح عنهم إلى مكان قريب، بحيث تراهم ولا يرونك، ليكون ما يقولون بمسمع منك، فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ أي: ما الذي يردّونه من الجواب، أو: ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول.

فأخذ الهدهدُ الكتابَ بمنقاره، ودخل عليها من كوّة، فطرح الكتاب على نحرها، وهي راقدةٌ، وتوارى في الكوة. وقيل: نقرها، فانتبهت فزعة، أو: أتاها والجنود حولها، فوقف ساعة يرفرف فوق رؤوسهم، ثم طرح الكتاب في حجرها، وكانت قارئة، فلما رأت الخاتم قالَتْ لأشراف قومها وهي خائفة: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ، وصفتْه بالكرم لكرم مضمونه إذ هو حق، أو: لأنه من ملك كريم، أو: لكونه مختوما. قال- عليه الصلاة والسلام-: «كَرَمُ الكتابِ خَتْمُهُ» «١» أو: لكونه مصدراً بالتسمية، أو: لغرابة شأنه، ووصوله إليها على وجه خَرْق العادة.

ومضمونه والمكتوب فيه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، وهذا تبيين لما أُلقي إليها، كأنها لما قالت: أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ قيل لها: ممن هو وما هو؟ فقالت: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ، «إن» : مفسرة، أي: لا تترفعوا عليّ ولا تتكبروا، كما يفعل جبابرة الملوك، وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ: مؤمنين، أو: منقادين، وليس فيه الأمر بالإسلام. وقيل: إقامة الحجة على رسالته لأن إلقاء الكتاب على تلك الصفة معجزة باهرة.

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ، كررت حكاية قولها إيذاناً بغاية اعتنائها بما في حيزه: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي:

أجيبوني في أمري، الذي حزبني وذكرتُه لكم، وعبّرت عن الجواب بالفتوى، الذي هو الجواب عن الحوادث المشكلة غالباً تهويلاً للأمر، ورفعاً لمحلهم، بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة. ثم قالت:

ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً من الأمور المتعلقة بالمملكة حَتَّى تَشْهَدُونِ بكسر النون، ولا يصح الفتح لأنه يُحذف للناصب. وأصله: تشهدونني، فحذفت الأولى للناصب وبقي نون الوقاية، أي: تحضروني، وتشهدوا أنه على صواب، أي: لا أقطع أمراً إلا بمحضركم. وقيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل واحد على عشرة آلاف.

قالُوا في جوابها: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: نجدة وشجاعة، فأرادوا بالقوة: قوة الأجساد والآلات، وبالبأس: النجدة والبلاء في الحرب. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي: هو موكل إليك فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ،


(١) رواه الطبراني فى الأوسط (ح ٣٨٧٢) والشهاب القضاعي فى مسنده (ح ٣٩) عن ابن عباس رضي الله عنه. وفى سنده السدى الصغير، متروك. انظر مجمع الزوائد (٨/ ٩٩) .

<<  <  ج: ص:  >  >>