للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أي: ألاَّ يفزع، وهو من ثبّت الله قلبه، فإن قلنا: المراد بها النفخة الثانية، فالمستثنى: هم من سبقت لهم الحسنى، بدليل قوله: لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ «١» وإن قلنا: هي نفخة الصعق، فالمستثنى: قيل: هم جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، لكن يموتون بعد صعق الخلق. وقيل: الحور وحَملةُ العرش، وإن قلنا: المراد نفخة الفزع في الدنيا، فالمستثنى: أرواح الأنبياء والأولياء والشهداء والملائكة.

ثم قال تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ «٢» بصيغة الماضي، أي: وكل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروه في موقف الحساب، بين يدي الله جل جلاله، والسؤال والجواب. أو: وكل حاضروه، على قراءة إسم الفاعل، وأصله:

آتيوه، حال كونهم داخِرِينَ: صاغرين أذلاء.

وَتَرَى الْجِبالَ حال الدنيا تَحْسَبُها جامِدَةً واقفة ممسّكة عن الحركة، من: جمد في مكانه: إذا لم يبرح. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي: مراً مثل مر السحاب، التي تسيرها الرياح، سيراً حثيثاً، والمعنى: أنك إذا رأيت الجبال وقت النفخة ظننتها ثابتة في مكان واحد لِعظمها، وهي تسير سيراً سريعا، كالسحاب إذا ضربته الرياح، وهكذا الأجرام العظام، إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها. ومثال ذلك: الشمس لعظم جرمها وبُعدها لا تتبين حركتها، مع كونها أسرع من الريح.

والذي في حديث أبي هريرة: أنَّ تسيير الجبال يكون بعد نفخة الفزع وقبل الصعق. ونص الحديث- بعد كلام تقدم: «فيأمر إسرافيل بالنفخة الأولى، فيقول: انفخ نفخة الفزع، فيفزع أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله، فيأمره فيمدها- أي: النفخة- ويطيلها، فيُسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، فتكون سراباً، وتَرْتج الأرض بأهلها رجاً، فتكون كالسفينة تضربها الأمواج، وتقلبها الرياح، وهو قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ «٣» الآية، فتميد الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع، وتضع الحوامل، وتشيب الولدان، وتطير الشياطين، هاربة من الفزع، حتى تأتي الأقطار هاربة، فتلقاها الملائكة تضرب وجهها وأدبارها، فترجع، ويولي الناس مدبرين، ينادي بعضهم بعضاً، وهو قوله: يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ.. الآية «٤» فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض، من قطر إلى قطر، فرأوا أمراً عظيماً، لم يروا مثله. ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والأموات يومئذٍ لا يعلمون بشيء من ذلك» .

قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله فمن استثنى الله من الفزع؟ قال: «أولئك الشهداء» .


(١) من الآية ١٠٣ من سورة الأنبياء. [.....]
(٢) قرأ حفص، وحمزة، وخلف: «أتوه» بقصر الهمزة، وفتح التاء، فعلا ماضيا، وقرأ الباقون بالمد وضم التاء «آتوه» اسم فاعل، مضافا للضمير.. انظر الإتحاف (٢/ ٣٣٥) .
(٣) الآية السادسة من سورة النازعات.
(٤) من الآية ٣٣ من سورة غافر.

<<  <  ج: ص:  >  >>