للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجاهل أنه في مكان مخصوص، كما كان هو في مكان، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ أي: موسى مِنَ الْكاذِبِينَ في دعواه أن له إلهاً، وأنه أرسله إلينا رسولاً.

وهذا تناقض من المخذول، فإنه قال أولاً: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي، ثم أظهر حاجته إلى هامان، وأثبت لموسى إلهاً، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه، وهذا كله تهافت. وكأنه تحصن من عصا موسى فلبّس وقال: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى. رُوِي أنه لما أُمر وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامانُ العمال، خمسين ألف بنّاء، سوى الأتباع والأُجراء- فبنوا، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط، منذ خلق الله السموات والأرض. أراد الله أن يفتنهم فيه، فصعده فرعون وقومه، ورموا بُنُشّابة نحو السماء، فرجعت مُلَطَّخَةَ بالدم، فقال: قد قتلنا إله السماء، فضرب جبريل الصرح بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون، فقتلت ألفَ ألفِ رجل، وقطعة على البحر، وقطعة في الغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك «١» . هـ.

وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ تعاظم فِي الْأَرْضِ أرض موسى بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق، بل بالباطل، فالاستكبار بالحق هو لله تعالى، وهو المتكبر المتعالي، المبالغ في كبرياء الشأن، كما في الحديث القدسي:

«الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته» «٢» ، أو: ألقيته في النار، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالبعث والنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي: بالبناء للفاعل. والباقي: للمفعول. والله تعالى أعلم.

الإشارة: الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء، وهو عالم الجبروت، فلما هبطت إلى عالم الأشباح، وكلفت بالعبودية، وبالخضوع لقهرية الربوبية، شق عليها، ونفرت من التواضع والذل، وبطشت إلى أصلها لأنها من عالم العز، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها، من الذل والتواضع والخضوع للحق، حتى تصل إلى الحق، فمن سبق له الشقاء أنف، وقال: ما هذا إلا سحر مفترى، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، واستكبر وطغى، فغرق في بحر الردى. ومن سبقت له السعادة تواضع، وذل لعظمة مولاه، فوصله إلى العز الدائم، في حضرة جماله وسناه. ولذلك قيل: للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون، حيث قال: أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى.

وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها، حيث برزت من عالم الجبروت قال تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى) ، ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار، كما قال الشاعر:


(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ٢٠٨- ٢٠٩) . وقال القرطبي (٦/ ٥١٤٩) : والله أعلم بصحة ذلك.
(٢) أخرجه أبو داود فى (اللباس، باب ما جاء فى الكبر، ٤/ ٣٥٠، ح ٤٠٩٠) وابن ماجه فى (الزهد، باب البراءة من الكبر، ٢/ ١٣٩٧، ح ٤١٧٤) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، بلفظ: «ألقيته فى النار» وأخرجه مسلم- من حديث أبي سعيد الخدري، وأبى هريرة فى (البر والصلة، باب تحريم الكبر، ٤/ ٢٠٢٣، ح ٢٦٢٠) بلفظ: «العز إزاره، والكبرياء رداؤه- فمن ينازعنى عذبته» .

<<  <  ج: ص:  >  >>