وأُجيب بأنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإنما فيه تأخير البيان لوقت الحاجة، وهو جائز. وبيان ذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون مُرادَ الله منهما، واستمر عملهم على ذلك، فكانت الآية مُبينة في حقهم لا مُجْمَلة. وأما عَدِيّ بن حاتم فكان بَدَوِيّاً مُشتغلاً بالصيد، ولم يكن فيه حُنْكَة أهل الحاضرة، فحمل الآية على ظاهرها ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنك لَعِرَيضُ القَفا» . فنزلت الآية تُبين لعدي مُرادَ الله عند الحاجة إلى البيان. مع أن السيوطي ذكر في التوشيح خلاف هذا ونصه:
قال بعضهم: كأنَّ عديّاً لم يسمع هذه اللفظة من الآية لأنها نزلت قبل إسلامه بمدة، وذلك أن إسلامه كان في السنة التاسعة أو العاشرة، بعد نزول الآية بمدة، قال: علَّمنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام، فقال:«صلّ كذا، وصم كذا، فإن غابت الشمس فَكُلْ حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فأخذ الخيطين ... » .
الحديث. فقال له- عليه الصلاة والسلام:«ألم أقل لك من الفجر؟» فتبين أن قوله في الحديث: «فأنزل الله مِنْ الفجر» من تصرُّف الرواة. هـ. مختصراً، فهذا صريح في أن الآية نزلت بتمامها مبينة فلم يكن فيها تأخير، والله تعالى أعلم.
ثم بيَّن الحق تعالى غاية الصوم، فقال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فمن أفطر مع الشك في الغروب، فعليه الكفارة، بخلاف الشك في الفجر للاستصحاب. ولما كان الاعتكاف من لوازم الصوم ذكر بعض أحكامه بإثره فقال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ أي: النساء وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، فالمباشرة للمعتكف حرام، وتُفسد الاعتكاف. كانت المباشرة في المسجد أو خارجَه. وكان الرجل يكون معتكفاً فيخرج فيصيب زوجَه ثم يرجع، فنزلت الآية- تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قد حدها لكم، فَلا تَقْرَبُوها فضلاً عن أن تعتدوها، كَذلِكَ أي: مثل هذا البيان التام، يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ محارمه.
الإشارة: قد تقدم أن صوم الخواص، وخواص الخواص، هو الإمساك عن الفُضول، وعن كل ما يقطع عن الوصول. أو الإمساك عن شهود الأغيار، وعن كل ما يوجب الأكدار. فإن عزَمَت النفس على هذا الصوم وعقَدَت النيّة عليه، حلَّ لها أن تُباشر أَبْكارَ العلوم اللدنية الوهبية، والحقائق العرفانية، وتفضي إلى ثَيبات العلوم الرَّسْمية الكسبية. العلوم اللدنية الوهبية شِعارُها، والعلومُ الرسمية دِثارها «١» . العلوم اللدنية لباس باطنها، والعلوم الرسمية لباس ظاهرها.
(١) الشعار: ما ولى جسد الإنسان دون ما سواه من الثياب، والدثار: الثوب الذي يكون فوق الشعار.