للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رعاية لِما يقال، وتركاً لتدبير الله، مع كونه أحق بالرعاية، وكيف، وفي ذلك تشريع لئلا يكون على المؤمنين حرج وضيق فيما فرض الله له فيما أعلمه. ثم قال: والحاصل أنه- عليه الصلاة والسلام- لم يلمّ بخطيئة، بدليل أنه لم يؤمر بتوبة ولا استغفار، وإنما أخبره بما أضمر في نفسك، خشية افتتان الغير، والله أحق أن يخشى، بأن يبتهل إليه ليزيل عنهم ما يخشى فيهم.

قال ابن عرفة: الصواب: أن ما أخفاه في نفسه هو: أن الله أخبره أن سيتزوجها. وما قاله ابن عطية لا يحل أن يقال، لأنه تنقيص لم يرد في حديث صحيح. وإنما ذكره المفسرون. هـ. قلت: إنما يكون تنقيصاً إذا كان ذلك الواقع في القلب ثابتاً، وأما إن كان خاطراً مارًّا فلا نقص إذ ليس في طوق البشر لأنه من أوصاف العبودية، بل الكمال في دفعه ورده بعد هجومه.

ثم قال ابن عرفة، على قوله: وَتَخْشَى النَّاسَ: هو تمهيد لعذره، وإن كان لمجرد أمر الله له بذلك، ولا ينبغي حمله على أنه خاف الناس فقط. بل المراد: عتابه على خلط خوفه من الله بخوفه من الناس، وأَمَرهُ ألا يخاف إلا من الله فقط، خوفاً غير مشوب بشيء. هـ. قلت: إذا فسرنا الخشية بالحياء لا يحتاج إلى هذا التعسُّف، مع أن الخوف من الخَلْق مذموم، وحده أو مع خوف الله، والنبي صلى الله عليه وسلم منزَّه عن ذلك، أي: تستحي من الناس أن يقولوا:

نكح امرأة ابنه، وكان- عليه الصلاة والسلام- أشد الناس حياء من العذراء في خدرها. والحياء ممدوح عند الخاص والعام. وأما قوله تعالى: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فتنبيه على أن الحياء في بعض المواضع تركه أَولى، فهو ترقية له، وتربية لوقت آخر. أو: وتخشى أن يفتتن الناس بذلك، والله أرحم بهم من غيره، فالله أحق أن تَخشى، فتبتهل إليه في زوال ذلك عنهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة: في الآية الأولى حث على التفويض وترك الاختيار، مع ما أمر به الواحد القهّار. وفي الحِكَم:

«ما تَركَ من الجهل شيئا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غير ما أظهر الله» «١» . فالواجب على العبد أن يكون في الباطن مستسلماً لقهره، وفي الظاهر متمثلاً لأمره، تابعاً لسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولِمَا يُوجب رضاه ومحبته. وفي الآية الثانية تنبيه على أن خواص الخواص يُعاتبون على ما لا يُعاتب عليه الخواص. والخواص، يُعاتبون على ما لا يعاتب عليه العوام، فكلما علا المقام، واشتد القرب، اشتدت المطالبة بالأدب، ووقع العتاب على أدنى ما يخل بشيء من الأدب، على عادة الوزراء مع الملك. وذلك أمر معلوم، مذوق عند أهل القلوب. وبالله التوفيق.


(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص ٢٠، حكمة: ١٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>