للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، أي: عصاه، سميت منسأة لأنها تنسى، أي: تطرح ويُرْمى بها. وفيها لغتان الهمز وعدمه، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز، وعليه قول الشاعر:

إِذا دَبَبْتُ على المِنسَاةِ مِن كِبَرٍ ... فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللهْوُ والغَزلُ

وقرأ غيرهما بالهمز، وهو أشهر.

فَلَمَّا خَرَّ سقط سليمانُ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي: تحققت وعلمت علماً يقيناً، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم، أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا بعد موت سليمان فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ في العمل الشاق له، لظنهم حياته، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته.

وذلك أن داود عليه السلام أسس بيت المقدس، في موضع فسطاط مُوسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصّى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه. فلما بقي من عمره سنة، سأل الله تعالى أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا، ولتبطل دعواهم علم الغيب. وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة. وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. فبقي في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. قال الثعلبي: فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمَّره بأساطين المها الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر، وفضض سقوفه وحيطانه باللئالئ، وسائر أنواع الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد.

كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر «١» . ومن أعاجيب ما اتخد في بيت القدس، أن بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة، وصقله، فإذا دخله الوَرعُ البار استبان فيه خياله أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود، فارتدع كثير من الناس عن الفجور.

قال صلى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وأن أرجو أنى يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حُكماً يُصادفُ حُكْمَه، فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله ألا يأتي أحد هذا البيت يُصلي فيه ركعتين إلا خَرَجَ من ذَنُوبِه كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمه، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» «٢» هـ.

فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السّلام حتى خرّ به بخت نصر، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت، وحمله إلى دار مملكته من العراق.

ثم قال «٣» : قال المفسرون: كان سليمان ينفرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، يدخل فيه طعامه وشرابه، فدخله في المرة التي مات فيها. وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت


(١) انظر تفسير البغوي (٥/ ٣٩٠) . [.....]
(٢) أخرجه ابن ماجه فى (الإقامة، باب ما جاء فى الصلاة فى مسجد المقدس ١/ ٤٥٢، ح ١٤٠٨) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(٣) أي الثعلبي.

<<  <  ج: ص:  >  >>