للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات والدلائل، فَأَغْشَيْناهُمْ أي: فأغشيناهم أبصارهم، أي:

غطيناها وجعلنا عليها غشاوة، فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق والرشاد.

وقيل: نزلت في بني مخزوم، وذلك أن أبا جهل حلف: لئن رأى محمداً يصلّي ليرضخنَّ رأسه، فأتاه وهو يصلّي، ومعه حجر، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه، ولزق الحجرُ بيده، حتى فكّوه عنها بجَهد، فرجع إلى قومه، فأخبرهم، فقال مخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر، فذهب، فأعمى الله بصره، فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع قوله، فرجع إلى أصحابه، ولم يرهم حتى نادوه «١» . وقيل: هي ذكر حالهم في الآخرة، وحين يدخلون النار، فتكون حقيقة.

فالأغلال في أعناقهم، والنار محيطة بهم. والأول أرجح وأنسب لقوله: وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، أي: الإنذار وتركه في حقهم سواء إذ لا هادي لمَن أضلّه الله.

رُوي أن عمرُ بنُ عبد العزيز قرأ الآية في غيلان القدريّ، فقال غيلان: كأني لم أقرأها قط، أُشهِدك أني تائب عن قولي في القدر. فقال عمر: اللهم إِنْ صَدَقَ فتُبْ عليه، وإن كذب فسلّطْ عليه مَن لا يرحمه، فأخذه هشام بن عبد الملك من غده، فقطع يديه ورجليه، وصلبه على باب دمشق «٢» .

ثم ذكر مَن ينفعه الإنذار، فقال: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي: إنما ينتفع بإنذارك مَن تبع القرآن وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وخاف عقاب الله قبل أن يراه، أو: تقول: نُزِّل وجود الإنذار لمَن لم ينتفع به منزلة العدم، فمَن لم يُؤمن كأنه لم يُنذر، وإنما الإنذار لمَن انتفع به. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ، وهو العفو عن ذنوبه، وَأَجْرٍ كَرِيمٍ الجنة وما فيها.

الإشارة: كل مَن تصدّى لوعظ الناس، وإنذارهم، على فترة من الأولياء، يقال له: لِتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون. ويقال في حق مَن سبق له الإبعاد عن طريق أهل الرشاد: لقد حقَّ القولُ على أكثرهم، فهم لا يؤمنون. إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أغلالاً تمنعهم من حط رؤوسهم لأولياء زمانهم، وجعلنا من بين أيديهم سدًّا: موانع تمنعهم من النهوض إلى الله، ومن خلفهم سدّاً: علائق تردهم عن حضرة الله، فأغشيناهم: غطَّينا أعين بصيرتهم، فلا يرون خصوصية أحد ممن يدلّ على الله، فهم لا يُبصرون داعياً، ولا يُلبون منادياً، فالإنذار وعدمه في حقهم سواء، ومعالجة دائهم عناء. قال الورتجبي: سد ما خلفهم سد قهر الأزل، وسد ما بين أيديهم شقاوة الأبد، فبنفسه منعهم من نفسه. لا


(١) أخرجه الطبري مختصرا (٢٢/ ١٥٢) عن عكرمة. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (١٣٩) لابن إسحاق فى السيرة، وأبى نعيم فى الدلائل، عن عكرمةُ، عن ابن عباس- رضى الله عنهما.
(٢) انظر تفسير النسفي (٣/ ٩٧) .

<<  <  ج: ص:  >  >>