يقول الحق جلّ جلاله: يَسْئَلُونَكَ يا محمد عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ أي: عن القتال فى الأشهر الحرم، قُلْ لهم: القتالُ في الشهر الحرام أمره كَبِيرٌ، لكن ما وقع من الكفار من صد الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي:
منعهم من الإسلام والطاعة، وكذلك كفرهم بالله وصدهم المسلمين عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عام الحديبية، وإخراج المسلمين من مكة التي هي بلدهم- وَالْفِتْنَةُ التي هم فيها من الكفر، وافتتان الناس عن دينهم- أَكْبَرُ جرماً من القتال الذي وقع في الشهر الحرام تأويلاً وظنّاً أنه لم يدخل الشهر الحرام.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمّر عليها عبد الله بنَ جَحْش في آخر جُمَادى الآخِرَةِ، فَلَقُوا عمرو بن الحضرمي، مع أناس من قريش، بعد غروب الشمس من جمادى الآخرة، فرموا عمراً فقتلوه، وأخذوا الغنيمة، فقال لهم عليه الصلاة والسلام:«لم آمركم أن تقتلوا في الشهر الحرام» فندموا، وبعثت قريش بالعتاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: كيف تستحل القتال في الشهر الحرام؟ فنزلت هذه الآية. ثم نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً.
ثم قال الحق جلّ جلاله في التحذير من الكفار: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا، لكن لا يطيقون ذلك، وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ويستمر عليه حتى يموت وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا فلا حرمة له، ولا نصيب له في الفيء والغنيمة، وفي الْآخِرَةِ فلا يرى لها ثواباً، وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ومفهوم الآية: أنه إن رجع قبل الموت لا يحبَط عملُه، وهو قول الشافعي. وقال مالك: يحبط أجر كل ما عمل، ويعيد الحج، إن تقدم على الردة، ويقبل منه الإسلام إن رجع، فإنْ لم يرجع أمهل ثلاثة أيام، ثم يقتل.
ولمّا نزلت الآية في إسقاط الحرج، ظنوا أنه لا أجر لهم في ذلك الجهاد، فأنزل الحق جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي ثوابه، وَاللَّهُ غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم، فلا يضيع جهادهم في هذه السرِيَّة، وأعاد الموصول لتعظيم شأن الهجرة والجهاد، وعبَّر بالرجاء إشعاراً بأن العمل غير موجب للثواب، وإنما هو عبودية، والأمر بيد الله إن شاء أثاب وإن شاء عاقب، لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ.
الإشارة: تعظيم الزمان والمكان يكون بقدر ما يقع فيه من طاعة الملك الديان، فالزمان الذي تهب فيه نفحات القبول والإقبال، لا ينبغي أن يقع فيه ملاججة ولا قتال، وهو وقت حضرة الذكر، أو التذكير، أو الجلوس مع