للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معك» ، (والله يقبض ويبسط) فيقبض الوجود تحت حكمك وهمتك، إن رفعت همتك عنه، ويبسط يدك بالتصرف فيه، إن علقت همتك بخالقه. أو يقبض القلوب بالفقد والوحشة، ويبسطها بالإيناس والبهجة. أو يقبض الأرواح بالوفاة، ويبسطها بالحياة. والقبض والبسط عند أهل التصوف: حالتان تتعاقبان على القلوب تعاقب الليل والنهار، فإذا غلب حال الخوف كان مقبوضا، وإذا غلب حال الرجاء كان مبسوطاً، وهذا حال السائرين. أما الواصلون فقد اعتدل خوفهم ورجاؤهم، فلا يؤثر فيهم قبض ولا بسط، لأنهم مالكوا الأحوالَ.

قال القشيري: فإذا كاشف العبدَ بنعت جماله بسطَه، وإذا كاشفه بنعت جلاله قَبضه. فالقبض يوجب إيحاشَه، والبسط يُوجب إيناسه، واعلم أنه يَرُدُّ العبد إلى حال بشريته، فيقبضه حتى لا يُطيق ذَرَّة، ويأخذه مَرَّة عن نعوته، فيجد لحمل ما يَرِدُ عليه قدرة وطاقة، قال الشّبلى رضي الله عنه: (من عَرَفَ الله حمَل السموات والأرض على شَعرة من جَفْن عينه، ومن لم يعرف الله- جلّ وعلا- لو تعلق به جَناح بعوضة لضجَّ) .

وقال أهل المعرفة: [أذا قَبض قَبض حتى لا طاقة، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة، والكل منه وإليه] . ومن عرف أن الله هو القابض الباسط، لم يَعتِب أحداً من الخلق، ولا يسكن إليه في إقبال ولا إدبار، ولم ييأس منه في البلاء، ولا يسكن إليه في عطاء، فلا يكون له تدبير أبداً. هـ.

ولكلٍّ من القبض والبسط آداب، فآداب القبض: السكون تحت مجاري الأقدار، وانتظار الفرج من الكريم الغفار.

وآداب البسط: كف اللسان، وقبض العنان، والحياء من الكريم المنان. والبسط مَزَلَّة أقدام الرجال. قال بعضهم: (فُتح عليَّ بابٌ من البسط فزللتُ زَلَّة، فحُجِبْتُ عن مقامي ثلاثين سنة) . ولذلك قيل: قف على البساط وإياك والانبساطَ واعلم أن القبض والبسط فوق الخوف والرجاء، وفوق القبض والبسط: الهيبة والأنس فالخوف والرجاء للمؤمنين، والقبض والبسط للسائرين، والهيبة والأنس للعارفين، ثم المحو في وجود العين للمتمكنين، فلا هيبة لهم، ولا أنس، ولا علم، ولا حس. وأنشدوا:

فلو كُنْتَ مِنْ أَهلِ الوُجودِ حقيقةً ... لغبْتَ عَن الأكوانِ والعرشِ والكرسي

وكُنْتَ بلا حالٍ مَع اللهِ واقفاً ... تُصان عَنْ التّذْكَارِ للجِن والإنس «١»


(١) ورد هذان البيتان فى قصة مع أبى سعيد الخراز، ذكرها القشيري فى الرسالة.

<<  <  ج: ص:  >  >>