للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو: بآيات الإنجيل أو: بالشرائع الواضحات قالَ لبني إسرائيل: قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالشريعة، أو: بالإنجيل المشتمل عليها وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو ما يتعلق بأمور الدين، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء- عليهم السلام- كما قال صلّى الله عليه وسلم: «أنتم أعلمُ بدُنياكم» «١» ، وهو عطف على مقدر، ينبئ عنه المجيء بالحكمة، كأنه قيل: جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها، ولأُبيّن لكم ما تختلفون فيه، فَاتَّقُوا اللَّهَ فى مخالفتى وَأَطِيعُونِ فيما أُبلغكم عن الله تعالى:

إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم به من الطاعة، وهو اعتقاد التوحيد، والتعبُّد بالشرائع، هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه فهذا تمام كلام عيسى عليه السلام، وقيل: قوله: هذا.... الخ من كلام الله تعالى، مُقرر لمقالة عيسى عليه السلام.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ أي: الفرق المتحزِّبة بعد عيسى، وهم: اليعقوبية والنسطورية، والملكانية، والشمعونية، مِنْ بَيْنِهِمْ أي: من بين النصارى، أو: من بين مَن بُعِثَ إليهم من اليهود والنصارى، أي: اختلافاً ناشئاً من بينهم، من غير حجة ولا برهان، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المختلفين، حيث قالوا في عيسى ما كفروا به، مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ وهو يوم القيامة هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظر أولئك الكفرة، أو قوم عيسى إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بدل من «الساعة» أي: هل ينتظرون إلا إتيان الساعةُ بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ غافلون عن الاستعداد لها، لاشتغالهم بأمر دنياهم، أو: منكرون لها، غير مترقبين وقوعها.

الإشارة: كانت الرسل- عليهم السلام- يُبينون لأممهم ما يقع فيه الاختلاف من أمر الدين، سواء تعلّق ذلك بالظاهر أو بالباطن، بما يوحى إليهم من إلهام، أو بملَك مرسل، فلما ماتوا بقي خلفاؤهم من العلماء والأولياء، فالعلماء يُبينون ما اختُلِف فيه من الشرائع والعقائد، بما عندهم من القواعد والبراهين، والأولياء يُبينون الحقائق، وما يتعلق بالقلوب من الشكوك والخواطر، وسائر الأمراض، بما عندهم من الأذواق والكشوفات. فالعلماء يرجعون إلى كتبهم وعلومهم، والأولياء يرجعون إلى قلوبهم وأذواقهم، حتى كان فيما سلف من العلماء إذا توقفوا في مسألة عقلية أو قلبية أخذوا صوفيّاً أُميّاً فيسألونه، ويجبرونه على الجواب، فيجيبهم عن كل ما يسألونه، كقصة أبي الحسن النوري مع القاضي، وغيره، وقد كان الشعراني يسأل شيخه الخواص- وهو أُمي- عن أمور معضلة، فيجيب عنها، حتى إن كتبه كلها مطرزة بكلامه- رضي الله عنهم أجمعين.


(١) أخرجه مسلم فى (الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، ٤/ ١٨٣٥ ح ٢٣٦٣) عن السيدة عائشة- رضي الله عنها- وسيدنا أنس رضي الله عنه بلفظ: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» .

<<  <  ج: ص:  >  >>