للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يكن تخلُّفنا عنك اختياراً، بل عن اضطرار، فَاسْتَغْفِرْ لَنا، فأكذبهم الله بقوله: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، فليس تخلُّفهم لأجل ذلك، وإنما تخلَّفوا شكّاً ونفاقاً، وطلبُهم الاستغفار أيضاً ليس بصادرٍ عن حقيقة.

قُلْ لهم: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمَن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أي: ما يضركم من هلاك الأهل والمال وضياعها، حتى تخلّفتم عن الخروج لحفظها، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي: مَن يقدر على ضرركم إن أراد بكم نزول ما ينفعكم، من حفظ أموالكم وأهليكم، فأيّ حاجة إلى التخلُّف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد الله؟ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً، إضراب عما قالوه، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه، أي: ليس الأمر كما يقولون، بل كان الله خبيراً بجميع الأعمال، التي من جملتها تخلُّفكم وما هو سببه، فلا ينفعكم الكذب مع علم الله بجميع أسراركم.

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً بأن يستأصلهم المشركون بالموت، فخشيتم إن كنتم معهم أن يُصيبكم ذلك، فتخلّفتم لأجل ذلك، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة، وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ زيّنه الشيطانُ وقبلتموه، واشتغلتم بشأن أنفسكم، غير مبالين بهم، وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، والمراد به الظن الأول، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة، كعلو الكفر، وظهور الفساد، وعدم صحة رسالته صلّى الله عليه وسلم، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين عند الله، مستوجبين لسخطه وعقابه، جمع: بائر، كعائذ وعُوذ، من بار الشيء: هلك وفسد، أي: كنتم قوماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم.

وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا أعددنا لِلْكافِرِينَ أي: لهم، فأٌقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن مَن لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر مستوجب السعير. ونكَّر سَعِيراً لأنها نار مخصوصة، كما نكَّر نَاراً تَلَظَّى «١» . وهذا كلام وارد من قبله تعالى، غير داخل في الكلام المتقدم، مُقرر لبوارهم، ومُبيّن لكيفيته، أي: ومَن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين، فإنا أعتدنا له سعيراً يحترق بها.

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُدبره تدبير قادر حكيم، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء، يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بقدرته وحكمته، من غير دخلٍ لأحد في شيء، ومن حكمته: مغفرته


(١) الآية ١٤ من سورة الليل.

<<  <  ج: ص:  >  >>