للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أو: «الذين» : عطف على «محمد» ، و «أشداء» : خبر الجميع، أي: غِلاظ شِداد على الكفار في حَرْبهم، رُحماء متعاطفون بينهم، يعني: أنهم كانوا يُظهرون لمَن خالف دينهم الشدة والصلابة، ولمَن وافقَ دينهم الرأفةَ والرحمةَ، وهذا كقوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «١» ، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتَحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم: أنهم كانوا لا يرى مؤمنٌ مؤمناً إلا صافحه وعانقه.

وهذا الوصف الذي مَدَحَ اللهُ به الصحابةَ- رضي الله عنهم- مطلوبٌ من جميع المؤمنين، لقوله صلّى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادَّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى» «٢» . رواه البخاري، وقال أيضاً: «نَظَرُ الرجل إلى أخيه شوقا خير من اعتكاف سَنَة في مسجدِي هذا» ، «٣» ذكره في الجامع.

تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً أي: تُشاهدُهم حال كونهم راكعين ساجدين لمواظبتهم على الصلوات، أو: على قيام الليل، كما قال مَن شاهد حالهم: رهبان بالليل أُسدٌ بالنهار، وهو استئناف، أو: خبر، يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي: ثواباً ورضا وتقريباً سِيماهُمْ علامَاتهم فِي وُجُوهِهِمْ في جباههم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي: من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود. وما روي عنه عليه السلام: «لا تُعلموا صوَركم» «٤» أي: لا تسمُوها، إنما هو فيمن يتعَمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض، ليحدث ذلك فيها، وذلك رياء ونفاق، وأما إن حَدَثَ بغير تعمُّد، فلا ينهى عنه، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غُرة في جباههم مع تحقُّق إخلاصهم.

وقال منصور: سألت مجاهداً عن قوله: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ أهو الأثر يكون بين عيني الرجل؟ قال: لا ربما يكون بين عيني الرجل مِثلُ ركبة البعير، وهو أقسى قلباً من الحجارة، ولكنه نور فى وجوههم من الخشوع.

وقال ابن جريج: هو الوقار والبهاء، وقيل: صفرة الوجوه، وأثر السهر. وقال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى، وما هم مرضى. وقال سفيان وعطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلّوا بالليل، لقوله عليه السلام: «من كثرت صلاته


(١) من الآية ٥٤ من سورة المائدة.
(٢) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب رحمة النّاس والبهائم، ح ٦٠١١) ومسلم فى (البر والصلة باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ح ٢٥٨٦) من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنه.
(٣) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٩٢٦٦) للحكيم عن ابن عمرو، وضعّفه.
(٤) على هامش النّسخة الأم: «هذا حديث لا أصل له» .

<<  <  ج: ص:  >  >>