للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلا يسخر نِساءٌ مؤمنات مِنْ نِساءٍ منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي: المسخور منهن خَيْراً مِنْهُنَّ أي: الساخرات، فإنّ مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يَظهرَ من الصور والأشكال، والأوضاع والأطوار، التي عليها يدور أمر السخرية، وإنما هي الأمور الكامنة في القلوب، من تحقيق الإيمان، وكمال الإيقان، وموارد العرفان، وهي خَفيّة، فقد يُصغّر العبدُ مَن عظَّم اللهُ، ويتحقرُ مَن وقّره الله، فيسقطُ من عين الله، فينبغي ألا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بأحدٍ إذا رآه رَثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، ولو فى دينه، فلعله يتوب ويُبتلى بما ابْتُلي به. وفي الحديث: «لا تُظْهِر الشماتَة لأخيك فيُعافِيه الله ويبتليكَ» «١» . وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكّل بالقول، لو سخِرتُ من كلب لخشيتُ أن أُحَوَّل كلباً. هـ.

وتنكير القوم والنساء إما لإرادة البعض، أي: لا يسخر بعضُ المؤمنين والمؤمنات من بعض، وإما لإرادة الشيوع، وأن يصير كل جماعة منهم مَنهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجلٌ من رجلٍ، ولا امرأةٌ من امرأة إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه.

وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولا يعيب بعضكم بعضاً بالطعن في نسبه أو دينه، واللمز: الطعن والضرب باللسان، والمؤمنون كنفس واحدة، فإذا عاب المؤمن المؤمنُ فقد عاب نفسه. وقيل: معناه: لا تفعلوا ما تلمزون به أنفسكم بالتعرُّض للكلام لأن مَن فعل ما استحق به اللمز فقد لمزَ نفسَه حقيقة. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي: لا يَدْعُ بعضكم بعضاً بلقب السوء، فالتنابزُ بالألقاب: التداعي بها. والتلقيبُ المنهي عنه ما يُدخِل على المدعُوِّ به كراهيةً، لكونه تقصيراً به وذمّاً له، فأمَا ما يُحبه فلا بأس به، وكذا ما يقع به التمييز، كقول المحدِّثين: حدثنا الأعمش والأحدب والأعور.

رُوي أن قوماً من بني تميم استهزأوا ببلال وخَبَّاب وعَمَّار وصُهيب، فنزلت «٢» . وعن عائشة- رضي الله عنها- أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة، وكانت قصيرة. وعن أنس: عَيّرت نساء النبي صلى الله عليه وسلم أمَّ سلمة بالقِصَر، فنزلت «٣» . ورُوي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، وكان به وَقْر- أي: صمم- فكانوا يوسِّعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى قوماً وهو يقول: تفسَّحوا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل: تنحّ فلم يفعل، فقال: مَن هذا؟

فقال: أنا فلان، فقال: فلان بن فلانة- يريد أُمّاً كان يُعَير بها في الجاهلية، فخجل الرجُل، فنزلت، فقال ثابت: والله لا أفخر على أحد بعد هذا أبدا «٤» .


(١) أخرجه الترمذي فى (صفة القيامة والرّقائق، باب ٥٤، ح ٢٥٠٦) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب» .
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٩٦- ٩٧) لابن أبى حاتم، عن مقاتل.
(٣) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٤٠٩) .
(٤) ذكره البغوي فى تفسيره ٧٠/ ٣٤٢- ٣٤٣) عن ابن عباس رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>