للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

البعث، كما في البدور السافرة. والله أعلم بحقيقة الأمر.

{فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان} مع عِظم شأنها، {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنس وَلاَ جانٌّ} لأنهم يُعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويُحشرون إلى الموقف أفواجاً على اختلاف مراتبهم، وأمّا قوله تعالى: {فوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: ٩٢] ونحوه؛ ففي موقف المناقشة والحساب، فيوم القيامة يوم طويل، وفيه مواطن، يُسألون في موطن، ولا يُسألون في آخر. وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم. وقيل: لا يُسأل ليَعلم من جهته، ولكن يُسأل للتوبيخ. وضمير {ذنبه} للإنس لتقدُّمه رتبة، وإفراده لأنّ المراد فرد من الإنس، والمراد بالجان الجن، فوضع الجان - الذي هو أبو الجن موضع الجن، كأنه قيل: لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ أنسي ولا جني، {فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان} مع كثر منافعها؛ فإنَّ الإخبار بما ذكر يزجركم عن الشر المؤدي إليه.

الإشارة: يسأله مَن في سماوات الأرواح ما يليق بروحانيته، من كشف الأسرار، وتوالي الأنوار، فهو دائم سائل مفتقر، لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وسؤاله إما بلسان حاله أو مقاله، ويسأله مَن في أرض البشرية ممن لم يترقّ إلى عالم الروحانية ما يليق بضعف بشريته، من القوت الحسي، وما يلائمه من ضرورية البشرية، أو يكون سبب نجاته ونعيمه يوم القيامة، من الاستقامة الظاهرة.

وأشار بقوله: {كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِي شأن} إلى اختلاف تجلياته في كل لحظة، فيتجلّى في ساعة واحدة بقبض قوم وبسط آخرين، ورفع قوم وذلّ آخرين، وإعطاء قوم ومنع آخرين، وترقية قوم وخفض آخرين، إلى ما لا نهاية له، ولذلك تختلف الواردات على قلوب العارفين، ينسخ بعضها بعضاً، ولذلك أيضاً تجد العارفين لا يسكنون إلى شيء، ولا يقفون مع شيء ولا يُعولون على شيء، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيسيرون معه، إذا أصبحوا نظروا ما يفعل الله بهم، وإذا أمسوا كذلك، قد هدمت المعرفة أركانَ عزائمهم، وحلّت عقدهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يُريدون ولا يختارون ولا يُدبّرون؛ لعِلمهم أن الأمر بيد غيرهم، ليس لهم من الأمر شيء.

وقوله تعالى: {سنفرغ لكم أيه الثقلان} فسّر القشيري الثقلين بالروح وصفاتها الحميدة، وبالنفس وصفاتها الذميمة، أي: سنفرغ لإكرامكم، ورفع أقداركم يا معشر الأرواح المطهرة، بأن أتجلّى لكم، فتُشاهدوني في كل وقت وحين، وسنفرغ لكم أيتها النفوس الظلمانية بأنواع الامتحان بصُنوف المحن، فلا تدخلوا جنتي حتى تتهذبوا وتصفوا من كدرات الأغيار، ولا أتجلّى لكم إلاّ في وقت الاحتياج والاضطرار. والحاصل: أنَّ المدار كله على هذه الدار، فمَن صفا هنا صُفي له ثَمّ، ومَن كدر هنا كدر عليه هناك. ويُقال لأهل النفوس الظلمانية: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض} بفكرة بصائركم فانفذوا، ولا قدرة لكم على ذلك؛ لسجن أرواحكم

<<  <  ج: ص:  >  >>