هذا؟ " فقال: رجلٌ من الأنصار - قيل: أبو طلحة، أنا يا رسول الله، فلم يجد من الطعام إلاّ ما يكفي الصبية، فقال لامرأته: نوّمي الصبيان، وأطِفئي السراج، وقرّبي الطعام، فنظهر للضيف أنَّا نأكل معه، ونمضغ ألسنتنا ليأكل، فأكل الضيف وحده، فلما أصبح قال صلى الله عليه وسلم للرجل: " إنَّ الله ضحك مِن فعلكما " عن أنس: أُهدي لبعضهم رأس مشويّ، وهو مجهود، فَوَجَّهه إلى جارِه، وجارُه وَجَّهَه إلى جارِه، فتداولته تسعةُ أنْفُس، حتى عاد إلى الأول.
{
ومَن يُوق شُحَّ نفسه} أي: مَن يقيه الله شحَّ نفسه حتى يغالبها فيما يغلب عليها، مِن حب المال وبُغضَ الإنفاق، {فأولئك هم المفلحون} ؛ الفائزون بكل مطلوب، والناجون من كل مرهوب. والشح - بالضم والكسر -: اللُّؤم، وأن تكون نفس الرجل كزّةً حريصة على المنع. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهم المنع نفسه، وقيل: الشُح: أكل مال أخيك ظلماً، والبخل: منع مالك، وقيل: الشُح: منع ما عندك والطمع في غيرك، والبُخل: منع مالك من غير طمع، فالشُح أقبح من البخل. والجملة: اعتراض وارد لمدح الأنصار بالسخاء، بعد مدحهم بالإيثار. وجميع الإشارة باعتبار " مَن " لأنها واقعة على الجمع.
ثم ذكر التابعين، فقال:{والذين جاؤوا مِن بعدهم} هم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام، {يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ، وصفوهم بذلك اعترافاً بفضلهم، وعن عائشة رضي الله عنها: " أُمِرُوا بأن يستغفروا لهم، فسبُّوهم " {ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ} أي: حقداً وعداوة {للذين آمنوا} على الإطلاق، {ربنا إِنك رؤوف رحيم} ؛ مبالغ في الرأفة والرحمة، فأنت حقيق بأن تجيب دعاءنا برأفتك ورحمتك.
الإشارة: الذين يستحقون المواهب، والفيض الإلهي والاصطفاء، ثلاث أصناف، الأول: الفقراء الذين هاجروا أوطانهم، وتركوا ديارهم وعشائرهم؛ طلباً لصلاح قلوبهم وأسرارهم، والثاني: القوم الذين نزلوا بهم إذا آووهم وآثروهم بأموالهم وأنفسهم، الثالث: مَن جاء بعدهم طلباً لذلك، على الوصف الذي ذكره الحق {يقولون ربنا اغفر لنا ... } الخ. قال الورتجبي: قوله تعالى: {والذين تبوؤوا الدارَ والإيمان ... } الخ، أثنى الله سبحانه على الفقراء، ووصَفَهم بأحسن الوصف، إذ كانوا صادقين في فقرهم، ثم أثنى على الأغنياء لِصدقهم في غناهم، ووصَفَهم بالإيمان والمعرفة بالله من قبلهم ولزومهم مواضع قربه، وخفضِهم جناحهم لإخوانهم من الفقراء، ومحبتهم، وتقديسهم من الحسد والشح والبُغض وحب الدنيا، ثم وَصَفَهم بالسخاء والإيثار، فلم يبقَ في قلوبهم من حب