للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قولهم ما لا يفعلون مقتٌ خالص لا شوب فيه، كأنه قيل: ما أكبر مقتاً قولهم بلا عمل.

ثم بيَّن ما هو مَرْضِي عنده، بعد بيان ما هو ممقوت بقوله: {إِنَّ اللهَ يُحب الذين يُقاتِلون في سبيله} ، وهو المقصود بالذات من السورة؛ وقوله: {صفًّا} أي: صافِّين أنفسهم، أو مصفوفين، مصدر وقع موقع الحال، {كأنهم بُنيان مرصُوص} ؛ لاصق بعضه ببعض، وقيل: أريد: استواء نيّاتهم في حرب عدوّهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رُصَّ بعضه إلى بعض، وهو حالٌ أيضاً، أي: مشبّهين بالبنيان الملاصق. قال ابن عرفة: التشبيه في الثبات وعدم الفرار كثبوت البناء ولزومه. هـ.

الإشارة: {سَبَّحَ لله} ، قال الورتجبي: لمَّا عاينوا آيات الله طلبوا فيها مشاهدة الله، فوجدوا في نفوسهم تأثير مباشرة نور قدرة الله، فقدَّسُوه أنه باين بوجوده من الحدثان. هـ. قوله تعالى: {كَبُرَ مقتًا} ... الخ، قال القشيري: خُلفُ الوعد مع كلِّ أحدٍ قبيحٌ، ومع الله أقبح، ويُقال: إظهارُ التجلُّدِ من غير شهودِ مواضعَ الفقر إلى الحقِّ في كل نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء مع ما حصل به الدعوى، واللهُ يحب التبرِّي من الحول والقوة. ويقال: لم يتوعَّد على زَلَّةٍ بمثْلِ ما توعَّد على هذا، بقوله: {كَبُرَ مقتا عند الله} . هـ. ولذا فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير، وآثروا السكوت، كما قال بعضهم:

لو كان ينفعني وعظي وعظتُكم

أنا الغريق فما خوفي مِن البلل

قال أبو زيد الثعالبي: وهذا إن وَجد مَن يكفيه ويقوم عنه في الوعظ، وإلاّ فلا ينبغي السكوت. قال الباجي في سنن الصالحين، عن الأصمعي: بلغني أنَّ بعض الحُكماء كان يقول: إني لأعظكم، وإني لكبير الذنوب، ولو أنَّ أحداً لا يعظ أخاه حتى يُحْكِم أمرَ نفسه لتُرك الأمر بالخير، واقتُصر على الشر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس، وتذكير مِن النسيان. وقال أبو حازم: إني لأعظ الناسَ، وما أنا بموضع الوعظ، ولكن أُريد به نفسي. هـ. قلت: وكان شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول حين يُذَكِّر: نحْن ما ننبَحُ إلاّ على نفوسنا. هـ.

ثم قال: وقال الحسن لِمطرف: عِظ أصحابك، فقال: أخاف أنْ أقولَ ما لا أفعل، فقال: يرحمك الله، وأيّنا يفعل ما يقول، ودّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذه، فلم يأمر أحدٌ منكم بمعروف ولم ينهَ عن منكر. هـ. وفي حديث الجامع: " مُروا بالمَعْرُوفِ وإنْ لَمْ تَفعلُوه، وانْهَوْا عَنِ المنكرِ وإنْ لم تَتجنبُوه " وقال الغزالي: مَن ترك العمل خوف الآفة والرياء، فإنَّ ذلك منتهى بغية الشيطان منه، إذ المراد منه ألاَّ يفوته الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيَّع العمل والإخلاص. هـ. قلت: ولا شك أنَّ الوعظ مِن المخلصين وأهل

<<  <  ج: ص:  >  >>